لماذا المنع من البكاء علی الميت |
بقلم: العلامة الـمحقق السيد جعفر مرتضی العاملی لقد بكی النبي صلّیالله عليه وآله وسلّم علی حمزة، وقال: أما حمزة فلا بواكي له. وبعد ذلك بكی علی جعفر، وقال: علی مثل جعفر فلتبك البواكي. وبكی علی ولده إبراهيم، وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب. وبكی كذلك علی عثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وزيد بن حارثة، وبكی الصحابة، وبكی جابر علی أبيه، وبشير بن عفراء علی أبيه أيضاً، إلی غير ذلك مما هو كثير في الحديث والتأريخ[1]. فكل ذلك فضلاً عن أنه يدل علی عدم المنع من البكاء فإنه يدل علی مطلوبية البكاء، وعلی رغبته صلّیالله عليه وآله وسلّم في صدوره منهم. ولكننا نجد في القابل: أن عمر بن الخطاب يمنع من البكاء علی الميت ويضرب عليه؛ ويفعل ما شاءت له قريحته في سبيل المنع عنه، ويروي حديثاً عن النبي صلّیالله عليه وآله وسلّم مفاده: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه[2]. مع أننا نجد أنه هو نفسه قد أمر بالبكاء علی خالد بن الوليد[3]. وقد بكت عائشة علی إبراهيم[4] وبكی أبو هريرة علی عثمان، والحجاج علی ولده[5] وبكی صهيب علی عمر[6] وهم يحتجون بما يفعله هؤلاء. وبكی عمر نفسه علی النعمان بن مقرن، وعلی غيره[7] وقد نهاه النبي صلّیالله عليه وآله وسلّم عن التعرض للذين يبكون موتاهم[8]. كما أن عائشة قد أنكرت عليه وعلی ولده عبد الله هذا الحديث الذي تمسك به، ونسبته إلی النسيان، وقالت: «يرحم الله عمر، والله، ما حدث رسول الله: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، لكن رسول الله صلّیالله عليه وآله وسلّم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهل عليه. قالت: حسبكم القرآن: ولا تزر وزارة وزر أخری»[9]. وفي نص آخر، إنها قالت: «إنّما مرّ رسول الله صلّیالله عليه وآله وسلّم علی يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنهم يبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها»[10]. وأنكر ذلك أيضاً: ابن عباس، وأئمة أهل البيت عليهمالسّلام، ومن أراد المزيد، فعليه بمراجعة المصادر[11].
السياسة وما أدراك ما السياسة: ونشير هنا إلی ما قاله الإمام شرف الدين رحمه الله تعالی قال: «وهنا نلفت أولي الألباب إلی البحث عن السبب في تنحي الزهراء عن البلد في نياحتها علی أبيها صلّیالله عليه وآله وسلّم، وخروجها بولديها في لـمة من نسائها إلی البقيع يندبن رسول الله، في ظل أراكة كانت هناك، فلما قُطعت بنی لها علي بيتاً في البقيع كانت تأوي إليه للنياحة، يُدعی: بيت الأحزان. وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة»[12]. وأقول: إن من القريب جداً: أن يكون حديث: «إن الميت ليعذب ببكاء الحي» قد حُرّف عن حديث «البكاء علی اليهودية المتقدم»؛ لدوافع سياسية لا تخفی؛ فإن السلطة كانت تهتم بمنع فاطمة عليهاالسّلام من البكاء علی أبيها. فيظهر: أن هذا المنع قد استمر إلی حين استقر الأمر لصالح الهيئة الحاكمة، ولذلك لم يعتن عمر بغضب عائشة، ومنعها إياه من دخول بيتها حين وفاة إبي بكر، فضر أم فروة أخت أبي بكر بدرته، وقد فعل هذا رغم أن البكاء والنوح كان علی صديقه أبي بكر، وكان هجومه علی بيت عائشة، وكان ضربه لأخت أبي بكر. وهو الذي كان يهتم بعائشة ويحترمها، وهي المعززة المكرمة عنده، ويقدر أبا بكر و من يلوذ به، ويحترم بيته بما لا مزيد عليه. نعم لقد فعل كلّ هذا لأن الناس لم ينسوا بعد منع السلطة لفاطمة عليهاالسّلام من النوح والبكاء علی أبيها. وناهيك بهذا الإجراء جفاء وقسوة: أن يُمنَعَ الإنسان من البكاء علی أبيه، فكيف إذا كان هذا الأب هو النبي الأكرم صلّیالله عليه وآله وسلّم أعظم، وأكمل، وأفضل إنسان علی وجه الأرض. ثم لما ارتفع المانع، ومضت مدة طويلة، وسنين عديدة علی وفاة سيدة النساء عليهاالسّلام، ونسي الناس أو كادوا، أو بالأحری ما عادوا يهتمون بهذا الأمر، إرتفع هذا المنع علی يد عمر نفسه، وبكی علی النعمان بن مقرن الذي توفي سنة 21 هـ وعلی شيخ آخر، وسمح بالبكاء علی خالد بن الوليد، الذي توفي سنة 21 أو 22 حسبما تقدم.
التوراة، والمنع من البكاء علی الميت: ويبدو لنا أن المنع من البكاء علی الميت مأخوذ من أهل الكتاب؛ فأن عمر كان يحول هذا المنع في زمن النبي صلّیالله عليه وآله وسلّم بالذات؛ ولم يرتدع بردع النبي له إلا ظاهراً. فلما توفي صلّیالله عليه وآله وسلّم ولم يبق ما يحذر منه، صار الموقف السياسي يتطلب الرجوع إلی ما عند أهل الكتاب، فكان منع الزهراء عن ذلك، كما قدمنا. وقد جاء هذا موافقاً للهوی والدافع الديني والسياسي علی حد سواء. ومما يدل علی أن ذلك مأخوذ من أهل الكتاب: أنه قد جاء في التوراة: «يا ابن، ها أنذا آخذ عنك شهوة عينيك بضربة؛ فلا تنح ولا تبك، ولا تنزل دموعك، تنهّد ساكتاً، لا تعمل مناحة علی أموات»[13].
حزن النبي صلّیالله عليه وآله وسلّم علی حمزة: 1- إن من الثابت حسبما تقدم، أن النبي صلّیالله عليه وآله وسلّم قد حزن علی حمزة، وبكی عليه، وأحب أن يكون ثمة بواكي له، كما لغيره. وواضح: أن حزن الرسول هذا، ورغبته تلك ليسا إلا من أجل تعريف أصحابه، والأمة أيضاً بما كان لحمزة من خدمات جلّی لهذا الدين، ومن قدم ثابتة له فيه، وبأثره الكبير في إعلاء كلمة الله تعالی. ويدلنا علی ذلك أنه صلّیالله عليه وآله وسلّم قد وصفه – كما يروی – بأنه كان فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم إلـخ[14]. ولأن حزنه صلّیالله عليه وآله وسلّم عليه كان في الحقيقة حزناً علی ما أصاب الإسلام بفقده، وهو الـمجاهد الفذ، الذي لم يكن يدخر وسعاً في الدفاع عن هذا الدين، وإعلاء كلمة الله. وما ذلك إلا لأن النبي الأعظم صلّیالله عليه وآله وسلّم لم يكن ليهتم بالبكاء علی حمزة، ولا ليبكي هو صلّیالله عليه وآله وسلّم عليه لـمجرد دوافع عاطفية شخصية، أو لعلاقة رحمية ونسبية، وإنما هو صلّیالله عليه وآله وسلّم يحب في الله وفي الله فقط، تماماً كما كان يبغض في الله، وفي الله فقط. فهو صلّیالله عليه وآله وسلّم يحزن علی حمزة بمقدار ما كان حمزة مرتبطاً بالله تعالی، وخسارته خسارة للإسلام. وإلا فكما كان حمزة عمه، فقد كان أبو لهب عمه أيضاً، وعداوة أبي لهب للرسول لا تدانيها عداوة، فقد كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبي صلّیالله عليه وآله وسلّم، وأعظمهم إيذاء له. وموقفه صلّیالله عليه وآله وسلّم من أبي لهب معروف ومشهور. ولكننا نجد في المقابل موقفه صلّیالله عليه وآله وسلّم من «سلمان» الذي كان صلّیالله عليه وآله وسلّم يحب أن يقال له: «سلمان المحمدي» بدلاً من: «الفارسي»[15]. وقد قال صلّیالله عليه وآله وسلّم في حقه: «سلمان منا أهل البيت»[16]. قال أبو فراس الحمداني: كانت مودة سلمان لهم رحمــاً ولـم يكن بين نوح وابنه رحم 2- كما أن نفس كونه صلّیالله عليه وآله وسلّم شريكاً في المصيبة، ومن شأنه أن يخفف المصاب علی الآخرين، الذين فقدوا أحباءهم في أحد، ولا سيما إذا كان مصابه صلّیالله عليه وآله وسلّم بمن هو مثل حمزة أسد الله وأسد رسوله. حمزة الذي لم يكن ليخفی علی أحد موقعه في المسلمين ونكايته في المشركين، ولـم يكن ما فعلته هند وأبو سفيان بجثته الشريفة، وأيضاً موقف أبي سفيان من قبره الشريف في خلافة عثمان؛ ثم ما فعله معاوية في قبره وقبور الشهداء، بعد عشرات السنين من ذلك التاريخ – لم يكن كل ذلك – إلا دليلاً قاطعاً علی ذلك الأثر البعيد، الذي تركه حمزة في إذلال المشركين، وإعلاء كلمة الحق والدين. حتی إن أبا سفيان وولده معاوية لم يستطيعا أن ينسيا له ذلك الأثر، وبقي – حتی قبره – الذي كان يتحداهم بأنفة وشموخ، كالشجا المعترض في حلقي الأب والإبن علی حد سواء. لقد استطاع حمزة أن يحقق أهدافه حتی وهو يستشهد، لأن شهادته جزء من هدفه كما قلنا. أما أعداء الإسلام فقد باؤا بالفشل، الذريع، والخيبة القاتلة، وانتهی بهم الأمر إلی أن يكونوا طلقاء هذه الأمة، وزعماء منافقيها، المشهور نفاقهم، والمعروف كفرهم.
مواساة الأنصار للبني صلّیالله عليه وآله وسلّم وإن مواساة الأنصار للنبي صلّیالله عليه وآله وسلّم حتی في البكاء علی حمزة، لهي في الحقيقة من أورع المواساة للنبي الأعظم صلّیالله عليه وآله وسلّم فهم يواسونه بأموالهم وأنفسهم، وحتی في عواطفهم الصادقة، ومشاعرهم النبيلة. وقد استمروا علی صدقهم، ووفائهم، وإخلاصهم له ولرسالته، ولوصيه علي عليهالسّلام، وأهل بيته عليهمالسّلام إلی آخر لحظة، ولذلك نكبهم الأمويون، والحكام بعد النبي صلّیالله عليه وآله وسلّم، وأذلوهم، وحرموهم كما تقدمت الإشارة إليه. المصدر: کتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّی الله عليه وآله و سلّم للــــعلامة الـمــحقــق السيــد جعـفـر مرتضـــی العـــامــــلی [1] . راجع: النص والإجتهاد ص230 – 234، والغدير ج6 ص159 – 167، ودلائل الصدق ج3 قسم1 ص134/136 عن عشرات المصادر الموثوقة، والإستيعاب (بهامش الإصابة) ترجمة جعفر ج1 ص211، ومنحة المعبود ج1 ص159، وكشف الأستار ج1 ص381 و 382 و 383، والإصابة ج2 ص464، والـمجروحون ج2 ص92، والسيرة الحلبية ج2 ص89 وراجع ص251، ووفاء الوفاء ج3 ص894 و 895 وراجع ص932 و 933، وحياة الصحابة ج1 ص571، وطبقات ابن سعد ج3 ص396 و ج2 ص313. [2] . راجع المصادر المتقدمة والغدير وغيره عن عشرات المصادر الموثوقة، وكذا منحة المعبود ج1 ص158، وفي ذكر أخبار أصبهان ج1 ص61 عن أبي موسی، والطبقات لابن سعد ج3 ص209 و 346 و 362. وراجع: تأويل مختلف الحديث ص245. [3] . التراتيب الإدارية ج2 ص375، والإصابة ج1 ص415، وصفة الصفوة ج1 ص655، وأسد الغابة ج2 ص96، وحياة الصحابة ج1 ص465 عن الإصابة، والمصنف ج3 ص559، وفي هامشه عن البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة، وتاريخ الخميس ج2 ص247، وفتح الباري ج7 ص79، والفائق ج4 ص19، وربيع الأبرار ج3 ص330، وراجع: تاريخ الخلفاء ص88، وراجع: لسان العرب ج8 ص363. [4] . منحة المعبود ج1 ص159. [5] . راجع: طبقات ابن سعد ج3 ط صادر ص81، وفي الثاني ربيع الأبرار ج2 ص568. [6] . طبقات ابن سعد ج3 ص362، ومنحة المعبود ج1 ص159. [7] . الغدير ج1 ص164 و 54 و 155، عن الإستيعاب ترجمة النعمان بن مقرن والرياض النضرة الـمجلد الثاني جزء2 ص328 و 329 حول بكاء عمر علی إبن ذلك الأعرابي حتی بل لحيته. [8] . راجع الغدير عن المصادر التالية: مسند أحمد ج1 ص237 و 235 و ج2 ص333 و 408، ومستدرك الحاكم ج3 ص190 و 381، وصححه هو والذهبي في تلخيصه، ومجمع الزوائد ج3 ص17، والإستيعاب ترجمة عثمان بن مظعون، ومسند الطيالسي ص351، وسنن البيهقي ج4 ص70، وعمدة القاري ج4 ص87 عن النسائي، وابن ماجة، وسنن ابن ماجة ج1 ص481، وكنـز العمال ج1 ص117، وأنساب الأشراف ج1 ص157، وطبقات ابن سعد ج3 ص399 و 429، ومنحة المعبود ج1 ص159. [9] . راجع صحيح البخاري ج1 ص146 ط سنة 1039، ومستدرك الحاكم ج3 ص381، واختلاف الحديث للشافعي هامش الأم ج7 ص266، وجامع بيان العلم ج2 ص105، ومنحة المعبود ج1 ص158، وطبقات ابن سعد ج3 ص346، ومختصر المزني هامش الأم ج1 ص187، والغدير ج6 ص163 عمن تقدم، وعن صحيح مسلم ج1 ص342 و 343 و 344، ومسند أحمد ج1 ص41، وسنن النسائي ج4 ص17 و 18، و سنن البيهقي ج4 ص72 و 73، وسنن أبي داود ج2 ص59، وموطأ مالك ج1 ص96. [10] . صحيح البخاري ج1 ص147. [11] . راجع الغدير، ودلائل الصدق، والنص الإجتهاد، وغير ذلك. [12] . النص والإجتهاد ص234. [13] . حزقيال: الإصحاح 24 الفقرة 16 – 18. [14] . راجع: المواهب اللدنية ج1 ص97، والسيرة الحلبية ج2 ص246، والسيرة النبوية لدحلان، بهامش الحلبية ج2 ص53، والإصابة ج1 ص354، وأسد الغابة ج2 ص48، والدر المنثور ج4 ص135، ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص288 ط دار الكتب العلمية، ومجمع الزوائد ج6 ص119، ومستدرك الحاكم ج3 ص197. [15] . راجع: البحار ج22 ص327 و 349، وسفينة البحار ج1 ص646، وقاموس الرجال ج4 ص415. [16] . مستدرك الحاكم ج3 ص598، وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص200 و 204، وذكر أخبار اصفهان ج1 ص54، والإختصاص ص341، وبصائر الدرجات ص17، والبحار ج22 ص326 و 330 و 331 و 348 و 349 و 374، وسفينة البحار ج1 ص646 و 647، والطبقات لإبن سعد ج1 ص59، وأسد الغابة ج2 ص331، والسيرة الحلبية ج2 ص313، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج2 ص102، وتاريخ الخميس ج1 ص482، ومناقب آل أبي طالب ج1 ص51، وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص568 ط دار المعارف، والمغازي للواقدي ج2 ص446، والسيرة النبوية لإبن هشام ج3 ص235، وقاموس الرجال ج4 ص415 و 424، ونفس الرحمان ص34/35 و 29 و 43 عن مجمع البيان، والدرجات الرفيعة ص218. |