الصفحة رقم 1  2  3  4  5  6 7 8

 

الوهابيون وبناء قبور الأولياء *

ص ( 29 )

تُعتبر مسألة بناء القبور و تشييد مراقد الأنبياء و أولياء الله الصالحين من المسائل الحسّاسة عند الوهّابيّين، و قد كان ابن تيميّة ـ و تلميذه ابن القيّم ـ أوّل من أفتى بحرمة بنائها و وجوب هدمها.

يقول ابن القيّم:

يجب هدم المشاهد الّتي بُنيتْ على القبور، و لا يجوز إبقاؤها ـ بعد القدرة على هدمها و إبطالها ـ يوماً واحداً.(1)

و في عام (1344 هـ ) بعد ما استولى آل سعود على مكّة المكرمة و المدينة المنوّرة و ضواحيهما، بدأوا يبحثون عن دليل يبرّر لهم هدم المراقد المقدَّسة في البقيع و محو آثار أهل البيت ـ عليهم السلام ـ و الصحابة، فلجأوا إلى الاستفتاء من علماء المدينة المنوّرة حول حرمة البناء على القبور، محاولة منهم لتبرير موقفهم أمام الرأي العامّ الإسلامي ـ و خاصَّة في الحجاز ـ لأنّهم كانوا يُدركون جيّداً أن المسلمين في الحجاز هم كالمسلمين في كلّ مكان، يعتقدون بكرامة أولياء الله وقدسيَّتهم و جواز البناء على قبورهم، فحاول الوهّابيّون أن يُلبسوا جريمتهم هذه بلباس الإسلام، دفعاً لنقمة المسلمين! سبحان الله!!

ــــــــــــــــــــــ

1. زاد المعاد في هدي خير العباد: 661.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 30 )

أرسلت السلطات السعودية قاضي القضاة في نجد ـ واسمه: سليمان بن بليهد ـ إلى المدينة المنوَّرة للاستفتاء من علمائها حول بناء مراقد أولياء الله، و لكن الجدير بالذكر هو أنّ الأسئلة التي طرحها ابن بليهد كانت تحمل في ثناياها الأجوبة المطابقة لآراء الوهّابييّن أنفسهم، و ما كان من العلماء إلاّ الإجابة بمثل ما هو مذكور في الاستفتاء نفسه، و كانوا يعرفون ـ مسبقاً ـ أنّ الإفتاء على خلاف آرائهم يُعرِّضهم للتهمة بالكفر والشرك، و من ثم يحكمون عليهم بالقتل إن رفضوا التوبة!!

و قد نشرت جريدة «أُمّ القرى» الصادرة في مكّة ـ في شوال 1344 هـ ـ تلك الأسئلة و الأجوبة، و قد أثارت ضجّة كبرى بين المسلمين ـ الشيعة و السنّة معاً ـ لأنّهم كانوا يعلمون أنّ وراء هذا الاستفتاء ـ الَّذي قد صدر تحت وطأة التهديد والترهيب ـ هو البدء بهدم القباب و البناء المشيَّد على قبور قادة الإسلام و عظماء المسلمين.

و هذا ما حصل بالفعل، فبعد ما صدرت تلك الفتوى من خمسة عشر عالماً من علماء المدينة، و انتشرت في الحجاز، بدأت السُّلطة الوهابية الحاقدة بهدم قبور آل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في الثامن من شوال من ذلك العام، و قضت على آثار أهل البيت ـ عليهم السلام ـ و الصحابة، و نهبت كلّ ما كان في ذلك الحرم المقدّس من فُرش و هدايا ثمينة و غيرها، و حوَّلت تلك الزمرة الوحشيّة البقيع المقدّس إلى أرض قفراء موحشة.(1)

ــــــــــــــــــــــ

1. يقول المؤرّخ الجليل الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب الذريعة: 8/261 ـ: لقد سيطر الوهّابيّون على الحجاز في سنة 1343 هـ ، و في الثامن من شهر شوال من نفس العام هدموا قبور الائمة الطاهرين ـ عليهم السلام ـ و الصحابة في البقيع. انتهى كلامه.

أقول: إنّ جريدة «أُمّ القرى» نشرت نصّ الاستفتاء و جوابه في تاريخ 17 شوال سنة 1344 هـ و حدّدتْ تاريخ صدور الفتوى من علماء المدينة بـ 25 رمضان، لهذا ينبغي القول انّ احتلال المدينة و هدم قبور أولياء الله حَدثا معاً في سنة 1344 هـ و يعتقد المرحوم السيد محسن الأمين أنّ الاحتلال الكامل و الهدم قد وقعا في عام 1344 هـ . راجع كتاب كشف الارتياب: 56ـ60.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 31 )

و فيما يلي نذكر جانباً من الاستفتاء، لتعرف كيف ضمَّن السائلُ الجوابَ في سؤاله، و أنّ الهدف لم يكن السؤال و الاستفتاء، بل كان للحصول على مستمسك لتضليل الرأي العام و تدمير آثار النبوَّة و الرسالة. و لو كان الهدف هو الاستفتاء الحقيقي و معرفة رأي الإسلام في ذلك، فما معنى إدخال الجواب في مضمون الاستفتاء؟!

بل إنّنا نظن أنّ الاستفتاء و الجواب كانا قد أُعدّا مسبقاً في ورقة خاصّة، ثم أُرسلتْ تلك الورقة إلى علماء المدينة للتوقيع عليها فقط، و إلاّ فليس من المعقول أن يُغيّر علماء المدينة وجهة نظرهم فجأة، و يُصدروا الفتوى بتحريم البناء على القبور و وجوب هدمها، مع العلم أنّهم كانوا و آباؤهم ـ طوال سنوات عديدة ـ من الدّاعين إلى حفظ الآثار النبويَّة، و كانوا يزورون تلك المشاهد المقدّسة.

يقول ابن بليهد في سؤاله:

«ما قول علماء المدينة المنوَّرة ـ زادهم اللّه فهماً و علماً ـ في البناء على القبور و اتّخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟

و إذ كان غير جائز بل ممنوع منهيٌّ عنه نهياً شديداً، فهل يجب هدمها و منع الصلاة عندها أم لا؟

و إذا كان البناء في مَسبلة(1) كالبقيع و هو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليه، فهل هو غصب يجب رفعه، لما فيه من ظلم المستحقين و منعهم استحقاقهم أم لا؟».

ــــــــــــــــــــــ

1. مَسْبلة: موقوفة في سبيل اللّه تعالى.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 32 )

و تحت التهديد و التخويف، يجيب علماء المدينة على سؤال «الشيخ» بمايلي:

«أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً، لصحة الأحاديث الواردة في منعه، و لهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين بحديث علي ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال لأبي الهيّاج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه، أن لا تَدع تمثالا إلاّ طمَسته، و لا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيتَه».

و يقول الشيخ النجدي في مقال نشرتْه جريدة «أُمّ القرى» في عددها الصادر في شهر جمادى الثّانية سنة 1345 هـ :

«إنّ بناء القباب على مراقد الأولياء صار متداولا منذ القرن الخامس الهجري».

نعم، هذه نماذج من أقوال الوهّابيّين حول بناء القبور، و ترى أنّ عمدة استدلالهم ـ في كتبهم و مؤلّفاتهم ـ على الحرمة تعتمد على أمرين:

1ـ إجماع علماء الإسلام على التحريم.

2ـ حديث أبي الهيّاج عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ و ما شابه ذلك.

نحن الآن نتحدّث فقط عن مسألة البناء على القبور و إقامة الظلال و السُّقف و الأبنية عليها.

أما مسألة زيارة القبور فهو موضوع مستقلّ سوف نتحدّث عنه في فصل خاصّ إن شاء اللّه تعالى.

بالنسبة إلى المسألة الأُولى فالحديث عنها في ثلاث نقاط:

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 33 )

1ـ ما رأي القرآن الكريم تجاه البناء على القبور، و هل نجد في القرآن بياناً لهذه المسألة؟

2ـ هل صحيح أنّ الأُمّة الإسلامية متَّفقة على حرمة البناء على القبور؟ أم أنّ البناء كان متداولا في كلّ العهود الإسلامية ، بدءاً بزمن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ و الصحابة؟

3ـ ماذا يعني حديث أبي الهيّاج و حديث جابر و أُمّ سلمة و ناعم ممّا يستغلّه الوهّابيّون للاستدلال على باطلهم؟

أـ رأي القرآن الكريم في البناء على القبور

لَمْ يتطرَّق القرآن الكريم إلى حكم البناء على القبور بصورة خاصّة، إلاّ أنّه يمكن استنباط حكمه من خلال بعض الآيات الكريمة العامّة، و إليك التفصيل:

1ـ البناء على قبور الأولياء تعظيمٌ للشعائر الإلهية

إنّ القرآن الحكيم يعتبر تعظيم شعائر اللّه سبحانه دليلا على تقوى القلوب، فيقول عزّوجل:

(و مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوب).(1)

و نتساءل: ما معنى تعظيم شعائر اللّه؟

الجواب: إنّ «شعائر» كلمةُ جمع، و مفردها: «شعيرة» و هي بمعنى الدليل والعلامة.

و ليس المقصود من «شعائر» ـ في هذه الآية ـ العلائم الّتي تُثبت وجود

ــــــــــــــــــــــ

1. الحج: 32.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 34 )

اللّه تعالى، ذلك لأنّ الكون كلَّه دليل على وجوده سبحانه. يقول الشاعر:

و في كلّ شيء له آيةٌ تَدلُّ على أنّه واحدُ

كما أنّه ليس هناك من يقول: إنّ تعظيم كلّ ما هو موجود في الكون دليل على التقوى، و إنّما المقصود هو تعظيم شعائر دين اللّه، و لهذا يقول المفسّرون ـ في هذه الآية ـ : إنّ كلمة «شعائر اللّه» معناها معالم دين اللّه.(1)

و إذا كان «الصفا و المروة» و كذلك البعير الّذي يُساق إلى منى للنحر من شعائر اللّه(2) فإنّما هو بسبب كونها من معالم الدين الحنيف، و إذا كانت «المزدلفة» تُسمّى بـ «المشعر» فإنّما هو بسبب كونها من علامات دين اللّه تعالى، و أنّ الوقوف في المشعر دليل على طاعة اللّه سبحانه.

و إذا كانت «مناسك الحج» تسمّى بالشعائر فإنّما هي لكونها علامات للتوحيد و الدين الحنيف.

و خلاصة القول: إنّ كلّ ما هو شعيرة لدين اللّه فإنّ تعظيمه ممّا يُقرّب إلى اللّه تعالى.

و ممّا لا شكّ فيه أنّ الأنبياء و أولياء اللّه تعالى هم من أكبر و أبرز علامات دين اللّه، إذ أنّهم كانوا خير وسيلة لإبلاغ رسالة اللّه و نشره بين الناس.

إنّ من الثابت لدى كلّ منصف أنّ وجود النبي و الأئمة الطاهرين ـ عليهم السلام ـ هو

ــــــــــــــــــــــ

1. تفسير مجمع البيان: 4/83 ، طبعة صيدا، و غيره.

2. ألف/ قوله تعالى: (إنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ)البقرة: 158.

ـ ب/ قوله تعالى:(و البُدْنَ جعلناها لكم من شعائر اللّه) الحج: 36.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 35 )

من علامات الإسلام و شعائر هذا الدين المقدَّس، فتعظيمهم تعظيم للّه و علامة على تقوى القلوب.

و لا شكّ أنّ صيانة آثارهم و المحافظة على قبورهم من المحو و الزوال إنّما هي نوع من تعظيم شعائر دين اللّه سبحانه.

و بعبارة أُخرى: نستطيع أن نُدرك ضرورة تعظيم قبور أولياء اللّه من خلال هاتين النقطتين:

الف: إنّ أولياء اللّه ـ و خاصّة أُولئك الذين ضحّوا من أجل الدين و نشره ـ هم من شعائر اللّه وعلائم دينه.

ب: إنّ بناء قبورهم ـ بالإضافة إلى تخليد ذكرياتهم و السير على نهجهم السديد ـ هو نوع من تعظيمهم و احترامهم.

و على هذا الأساس فإننا نرى كافّة الشعوب و الأُمم في العالَم تُخصّص مناطق خاصّة لمثوى شخصيّاتهم السياسية و الدينية، كي تبقى رمزاً خالداً لأتباعهم إلى الأبد، فكأنَّ حفظ مراقدهم من المحو و الاندراس يؤدّي إلى خلود ذكراهم و إحياء أفكارهم و مناهجهم.

و لكي نعرف هذه الحقيقة جيّداً، لابدّ من أن نتأمّل الآية السادسة و الثلاثين من سورة الحج:

(و البُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ).

إنّ بعض حجّاج بيت اللّه الحرام كانوا يسوقون معهم بعيراً من بلادهم (هَدْياً بالغَ الكعبة)كي يُنحر بجوار بيت اللّه، و كانوا يتركون على عنقه قلادة ـ أو غيرها ـ

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 36 )

كناية عن أنّه يُساق للنحر في مكّة، فهو للّه تعالى لا يُباع و لا يُشترى، فكان يتميَّز بهذه القلادة عن بقية الإبل.

لهذا السبب اعتبره اللّه تعالى «من شعائر اللّه» و لهذا حكم الإسلام باحترام هذا الهَدي، فلا يجوز ركوبه ـ مثلا ـ و يجب توفير المأكل و المشرب له حتى ساعة الذبح بجوار الكعبة.

فإذا كان هذا البعير يكتسب هذا الاحترام و الإكرام، فقط لكونه صار من شعائر اللّه تعالى، فما تقول في الأنبياء و الأئمة الطاهرين؟!

ألا يُعتبر الأنبياء و الأئمة الطاهرون ـ عليهم السلام ـ و العلماء و الشهداء ـ الذين ألبسوا أنفسهم قلادة العبودية للّه منذ البداية و نذروا أنفسهم لخدمة دين اللّه و قاموا بدَور الوسيط بين اللّه و خلقه في هدايتهم و إرشادهم ـ ألا يُعتبرون من شعائر اللّه؟!

ألا يجب تعظيمهم و احترامهم، في حياتهم و بعد مماتهم، التعظيم اللائق بهم؟!

إذا كانت الكعبة و الصفا و المروة و منى و عرفات ـ و ما هي إلاّ جمادات مركّبة من التراب والحجر ـ تُعتبر من شعائر اللّه و تستحقّ الاحترام و التعظيم المناسب لها بسبب ارتباطها باللّه سبحانه، فلماذا لا يكون أولياء اللّه ـ الذين هم حُماة دين اللّه و ناشروا أحكامه ـ و ما يرتبط بهم، لماذا لا يكونوا جميعاً من شعائر اللّه؟!

إنّنا ندعو الوهّابيّين إلى تحكيم وجدانهم ـ في هذا المجال ـ و نطرح عليهم هذا السؤال: هل تشكّون و تتردّدون في أنّ الأنبياء و الرسل هم من شعائر اللّه؟!

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 37 )

ألا يحكم الوجدان بضرورة تعظيمهم و تخليدهم و التمسُّك بمناهجهم؟!

هل أنّ البناء على قبورهم و تنظيف الساحة الّتي تضمّ مراقدهم تعظيمٌ و احترامٌ لهم، أم هدْم قبورهم و إهمال الساحة المحتضنة لمراقدهم و تحويلها إلى خربة مهجورة موحشة يُعْتَبَر تعظيماً لهم؟!

2ـ حبّ النبيّ والمودَّة في القربى

إنّ صيانة القبور والآثار الباقية من بيت الوحي والعصمة ـ عليهم السلام ـ من مظاهر حب النبي«صلى الله عليه وآله وسلم» وتكريمه، وقد أُمر المسلمون في الكتاب والسنّة بحبه وتكريمه و تبجيله، قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشيرتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَونَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولهِوَجِهاد في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِي اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدي الْقَومَ الْفاسِقينَ) .(1)

وقال سبحانه في وصف المؤمنين:(فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّروهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ).(2)

فالآية الكريمة تأمر بأُمور أربعة:

1. الإيمان به.

2. تعزيره.

3. نصرته.

4. اتّباع كتابه وهو النور الذي أُنزل معه.

ــــــــــــــــــــــ

1. التوبة: 24.

2. الأعراف: 157.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 38 )

وليس المراد من تعزيره هو نصرته، لأنّه قد ذكره بقوله: «نصروه» وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما انّه نبيُّ الرحمة والعظمة ، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته ، كما أنّ الإيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة.

وعلى هذا فحب النبي«صلى الله عليه وآله وسلم» ومن يمت إليه بصلة أصل إسلامي يجب أن يهتم به المسلمون ويطبقونه في حياتهم.

ولأجل كرامة رسول اللّه«صلى الله عليه وآله وسلم» ومنزلته يدعو الذكر الحكيم إلى تعظيمه في المجالس وحفظ كرامته ويقول:

(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصواتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبىِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون).(1)

وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذينَ يَغُضُّونَ أَصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقوى) .(2)

وقال: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِبَعْضِكُمْ بَعضاً).(3)

فأي إجلال أبلغ من هذا، وأي تقدير أروع من هذا التقدير.

وليس الذكر الحكيم وحده هوالداعي والآمر بحب الرسول(صلى الله عليه وآله)، بل السنّة النبوية تضافرت على لزوم حبّه.

ــــــــــــــــــــــ

1. الحجرات: 2 .

2. الحجرات: 3.

3. النور: 63.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 39 )

قال رسول اللّه: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين».(1)

وقد تواتر مضمون هذه الرواية عن النبي(صلى الله عليه وآله)، فمن أراد فليرجع إلى الكتب المعدّة لهذا الغرض.(2)

مظاهر الحب

إنّ لهذا الحب مظاهر ومجالي، إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرفاته، بل من خصائصه أن يظهر أثره على سلوك الإنسان وملامحه.

1. حب اللّه ورسوله لا ينفك عن اتّباع دينه والاستنان بسنّته والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه . و الاتّباع أحد مظاهر الحبّ قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(3). فمن ادّعى الحب في النفس وخالف في العمل، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.

وقد نسب إلى الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ انّه أنشد البيتين التاليين:

تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه هذا لعمري في الفعال بديع

ــــــــــــــــــــــ

1. صحيح البخاري:1/8 ، باب حب الرسول من الإيمان من كتاب الإيمان.

2. كنز العمال:2/126.

3. آل عمران: 31.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 40 )

لو كان حبك صادقاً لأطعته * انّ المحب لمن يحب مطيع(1)

2. ومن مظاهر هذا الحب، صيانة آثارهم وحفظ معالمهم والعناية بكلّ ما يتصل بهم حتى الاحتفاظ بما صلوا فيه من ألبسة أوشربوا منه الماء من أوان أو استخدموه من أشياء، وتشييد مراقدهم، وتعمير قبورهم ... كلّ ذلك انعكاس طبيعي لهذا الحب الكامن في النفوس والود المتمكن في القلوب.

وليس هذا أمراً مختصاً بالمسلمين، بل الأُمم المتحضّرة المعتزّة بماضيها وتاريخها، تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخي باق من الماضي وصيانة مراقد شخصياتهم العلمية .

إنّ القرآن الكريم يأمرنا ـ بكلّ صراحة ـ بالحبّ و المعاملة الحسنة مع النبىّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأقربائه فيقول:

(قُل لا أسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).(2)

و من الواضح لدى كلّ من يُخاطبه اللّه بهذه الآية أنّ البناء على مراقد أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو نوع من أنواع إظهار الحبّ و المودَّة لهم.

و هذه العادة مُتَّبعة عند كافّة الشعوب و الأُمم في العالَم، و الجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودَّة لصاحب ذلك القبر، و لذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية و العلمية في كنائس ومقابر مشهورة، و يزرعون أنواع الأزهار و الأشجار حولها.

ــــــــــــــــــــــ

1. سفينة البحار، مادة حب.

2. الشورى: 23.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 41 )

3ـ البناء على القبور في الأُمم السابقة

يستفاد من بعض الآيات الكريمة ـ في القرآن ـ أنّ تعظيم قبور المؤمنين كان أمراً شائعاً بين الأُمم الّتي سبقت ظهور الإسلام، فبالنسبة إلى أصحاب الكهف ـ بعد ما انتشر خبرهم بين الناس و هرعوا إلى الكهف لمشاهدتهم ـ وقع الخلاف والنزاع حول مدفنهم و انقسموا قسمين، فقال أحدهما:

(ابنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً).

و قال الآخر:

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم يذكر لنا هذين الرأيين، من دون أن ينتقدهما، و على هذا يمكن القول بأنّه لو كان الرأيان باطلين لانتقدهما، أو قصَّ، قصّتهما باسلوب رافض مستنكر.

و يقول المفسّرون: إنّ النزاع ـ حول مدفن أصحاب الكهف ـ إنما وقع بين المؤمنين و الكافرين، أمّا الكافرون فقالوا:

(ابنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً).

و المؤمنون قالوا:

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).(1)

و كانت الغلبة مع المؤمنين حيث قال سبحانه:

(قالَ الَّذينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

ــــــــــــــــــــــ

1. الكهف: 21.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 42 )

و بُني المسجد و صارت قبور أصحاب الكهف مركزاً للتعظيم و الاحترام.

و هكذا يظهر لنا أنّ الهدف من البناء على قبور أصحاب الكهف إنّما كان نوعاً من التعظيم لأولياء اللّه الصالحين.

أيّها القارئ الكريم: بعد ما مرَّ عليك من الآيات الكريمة الثلاث، لا يمكن القول بحرمة البناء على قبور أولياء اللّه و لا بكراهته بأىّ وجه، بل يمكن اعتباره نوعاً من تعظيم شعائر اللّه و مظهراً من مظاهر المودَّة للقربى.

4ـ الإذن في ترفيع بيوت خاصّة

لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت الّتي يُذكر فيها اسمه عزّوجلّ، فقال عزَّ من قائل: (في بُيُوت أذِنَ اللّهُ اَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالْغُدُوِّ وَ الآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ...)(1).

و الاستدلال بهذه الآية ـ على جواز البناء على القبور ـ يتمّ ببيان أمرين:

الأوّل: ما هو المقصود من البيوت؟

الثاني: ما هو المقصود من الرفع؟

بالنسبة إلى الأمر الأوّل: ليس المراد من البيوت هو المساجد فقط، بل المراد منها ما هو الأعمّ من المساجد و الأماكن الّتي يُذكر فيها اسم اللّه تعالى، سواء كانت مساجد أو غير مساجد، كبيوت الأنبياء و الأئمة ـ عليهم السلام ـ و الصالحين الذين لا تُلهيهم تجارة و لا بيع عن ذِكر اللّه، فهذه البيوت تُعتبر من المصاديق البارزة للآية الكريمة.

ــــــــــــــــــــــ

1. النور: 36ـ37.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 43 )

بل يمكن أن يقال: إنّ المراد من البيوت هو غير المساجد، لأنّ البيت هو البناء الّذي يتشكَّل من جدران أربعة و عليها سقف قائم، و إذا كانت الكعبة يُقال لها: بيت اللّه فإنّما هو بسبب كونها مُسقَّفة، و القرآن الحكيم يعتبر البيت هو المكان المسقَّف فيقول سبحانه:

(وَلَوْلا أنْ يُكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّة...).(1)

إنّ المستفاد من هذه الآية الكريمة هو أنّ البيت لا ينفكّ عن السقف، مع العلم أنّه يستحبّ شرعاً أن تكون المساجد غير مُسقَّفة. هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً تحت السماء من دون سقف يُظلّله.

و على كل تقدير... فالمقصود من البيوت إمّا هو الأعم من المساجد، أو غير المساجد...

هذا بالنسبة إلى الأمر الأوّل.

و أمّا الأمر الثاني ـ و هو معنى الرفع ـ فيحتمل أمرين:

أن يكون المراد منه هو الرفع المادّي الظاهري، الّذي يتحقّق بإرساء القواعد و إقامة الجدار والبناء، كما قال سبحانه:

(وَ إِذْ يَرْفَعُ إبراهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعيلُ...)(2).

أو يكون المراد منه هو الرفع المعنوي، كما قال: عزَّوجلّ:

ــــــــــــــــــــــ

1. الزخرف: 33.

2. البقرة: 127.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 44 )

(وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيَّاً).(1)

أي: منحناه مكانةً عالية.

فإن كان المراد هو المعنى الأوّل، فهو يدلّ ـ بكلّ وضوح ـ على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء و تعميرها، في حياتهم و بعد وفاتهم، و من المعلوم أنّ مدفن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ و مدفن عدّة من الأئمة الطاهرين و الأولياء الصالحين إنّما هو في بيوتهم، فتشييد هذه البيوت و صيانتها من الخراب و الاندثار عملٌ جائز بنصّ الآية الكريمة، بل هو محبوب و مرغوب فيه.

و إن كان المراد منه هو الرفع المعنوي و العظمة المعنوية، كانت النتيجة من الإذن برفعها هو الإذن بتكريمها و تبجيلها و صيانتها و تطهيرها ممّا لا يليق بشأنها.

و على كلّ حال، فالإذن في الرفع ـ سواء أكان ماديّاً أم معنوياً ـ إنّما جاء بسبب وجود الرجال الصالحين الذين يذكرون اللّه سبحانه فيه بالغدوّ و الآصال.

بعد هذه الآية و آيات أُخرى مما ثلة كيف يجوز للوهّابيّين أن يهدموا بيوت آل رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الّتي كانت مهبطاً لملائكة اللّه و مركزاً لذكر اللّه و نشر دينه و أحكامه؟!!

كيف يجوز لهم أن يهدموا هذه المراقد المقدّسة الّتي هي مهوى أفئدة ملايين المؤمنين، وكانوا يزورونها ـ رجالا و نساءً، صباحاً و مساءً ـ و يذكرون اللّه فيها بالصلاة و الدعاء و التسبيح؟!

لماذا أقدم الوهّابيّون على تحقير هذه البيوت المقدّسة و إذلالها و إهمالها،

ــــــــــــــــــــــ

1. مريم: 57.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 45 )

وحوَّلوها إلى قفار موحشة مهجورة، يُرثى لها و يحنّ قلب كلّ مؤمن لوضعها المأساوي؟!

لماذا؟ و لماذا؟

و قد روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك و بريدة: أنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قرأ قوله تعالى: (في بيوت أذن اللّه أن تُرفع...) فقام إليه رجل و قال: أىّ بيوت هذه يا رسول اللّه؟

فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : بيوت الأنبياء.

فقام إليه أبوبكر و قال: يا رسول اللّه و هذا البيت منها؟ ـ و أشار إلى بيت علىّ و فاطمة ـ عليهما السلام ـ ـ فقال النبي: نعم، مِن أفاضِلها.(1)

إلى هنا تم بيان ما هو رأي القرآن الحكيم في البناء على القبور واليك دراسة رأي الامة الإسلامية حوله .

ب ـ الأُمَّة الإسلامية و البناء على القبور

عند ما انتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية، و عمَّ نوره منطقة واسعة من الشرق الأوسط، كانت لقبور الأنبياء ـ الّتي كانت معروفة يومذاك ـ بناء و سقف وظلال، و كانت لبعضها قباب مشيَّدة و ضرائح منضَّدة، لا زال البعض منها موجوداً حتّى الآن.

و في مكّة نفسها ترى قبر النبىّ إسماعيل و أُمّه هاجر ـ عليهما السلام ـ يستقرّان في الحِجر

ــــــــــــــــــــــ

1. تفسير الدرّ المنثور: 5/50. و في سؤال أبي بكر عن بيت علىّ و فاطمة ـ عليهما السّلام ـ و جواب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مجال للتأمّل والتعليق، لما كان يعلمه النبىّ بما سيتعرض له هذا البيت المقدّس بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 46 )

المعروف بِحجر إسماعيل، كما أنّ قبر النبىّ دانيال يقع في مدينة شوش في ايران، و قبور الأنبياء هود و صالح و يونس و ذي الكفل ـ عليهم السلام ـ في العراق، و كذلك قبر النبىّ إبراهيم و أولاده إسحاق و يعقوب و يوسف تقع في القدس المحتلَّة، بعد أن كانت في مصر، فنقل النبىّ موسى ـ بأمر اللّه تعالى ـ أجسادهم الطاهرة إلى القدس، و لا زالت موجودة حتى الآن و لكلٍّ منها معالم و أبنية مشيَّدة. كما أنّ قبور لفيف من الأنبياء في الأردن وعليها بناء مشيدّ .

و قبر أمّ البشر السيدة حوّاء يقع في مدينة «جدّة» بالحجاز ـ على ما هو المشهور ـ و قد سُمّيت المدينة بـ «جدَّة» نظراً إلى مثوى السيّدة حواء فيها، و قد كان لقبرها آثارٌ مشهودة، و لمّا احتلّ الوهّابيّون الحجاز عمدوا إلى محو آثاره و طمس معالمه!

كلّ هذه المراقد و القبور كانت بمرأى من المسلمين يوم فتحوا تلك البلاد، و مع ذلك لم يصدر منهم أىّ ردّ فعل سلبي تجاهها، و لم يأمروا بهدمها و تخريبها، فلو كان البناء على القبور و دفن الموتى في مقابر مسقَّفة عملا محرَّماً في الإسلام، لكان المفروض على أُولئك المسلمين أن يقوموا ـ قبل كلّ شيء ـ بهدم تلك القبور الّتي لا زالت متواجدة، في مناطق متعدّدة من القدس و الأردن و العراق، و لكانوا يمنعون من تجديد بنائها أو إعادته على مرّ العصور و الأزمان، و لكنّنا نرى أنّهم لم يأمروا بهدمها فحسب، بل دأبوا على تعميرها و صيانتها طوال أربعة عشر قرناً.

لقد كانوا يدركون ـ بوحي من العقل ـ أنّ حماية آثار الأنبياء و صيانتها إنّما هي نوع من الاحترام لهم، و أنّ ذلك (تكريمهم ـ لا عبادتهم ـ) يُقرّبهم إلى اللّه عزّوجلّ و يُنيلهم الأجر و الثواب.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 47 )

يقول ابن تيميّة ـ في كتابه الصراط المستقيم ـ :

«عندما تَمَّ فتح القدس كانت لقبور الأنبياء هناك أبنية ولكن أبوابها كانت مغلقة حتى القرن الرابع الهجري»(1).

فلوكان البناء على القبور حراماً لكان هدمه واجباً، و لم يكن هناك مبرّر لتركها على حالها مغلّقة الأبواب، بل كان الإسراع إلى هدمها واجباً ، على فرض صحة قول ابن تيميّة من إغلاق أبوابها إلى القرن الرابع .

و خلاصة القول: إنّ بقاء تلك الأبنية و القباب على القبور طوال هذه الفترة، وبمرأى علماء الإسلام و فقهائه دليل واضح على جوازها في الدين الإسلامي المقدَّس.

الآثار الإسلامية دليل على أصالة الدين

ممّا لا شكّ فيه أنّ المحافظة على آثار الأنبياء ـ و خاصّة آثار النبيّ محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من قبره و قبور زوجاته و أولاده و أصحابه، و كذلك بيوتهم الّتي كانوا يسكنون فيها، و المساجد الّتي كانوا يقيمون الصلاة فيها ـ لا شكّ انّ فيها نتائج محمودة و فوائد كثيرة نذكر منها مايلي:

اليوم و بعد مضي عشرين قرناً على ميلاد السيّد المسيح ـ عليه السلام ـ تحوّل المسيح و أُمّه العذراءو كتابه الإنجيل و كذلك الحواريّون، تحوَّلوا ـ في عالم الغرب ـ إلى أُسطورة تاريخية، و صار بعض المستشرقين يُشكّكون ـ مبدئياً ـ في وجود رجل

ــــــــــــــــــــــ

1. كشف الارتياب: 384.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 48 )

اسمه المسيح و أُمّه مريم و كتابه الإنجيل، و يعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه أُسطورة «مجنون ليلى».

لماذا؟

لأنّه لا يوجد أي أثر حقيقي و ملموس للمسيح، فمثلا لا يُدرى ـ بالضبط ـ أين وُلد؟ و أين داره الّتي كان يسكنها؟ و أين دفنوه بعد وفاته ـ على زعم النصارى أنه قُتل ـ ؟

أمّا كتابه السماوي فقد امتدَّت إليه يد التحريف و التغيير و التزوير، و هذه الأناجيل الأربعة لا ترتبط إليه بصلة و ليست له، بل هي لـ «متّى» و «يوحنا» و «مرقس» و «لوقا» و لهذا ترى في خاتمتها قصّة قتله المزعوم و دفنه، و من الواضح ـ كالشمس في رائعة النهار ـ أنّها قد كُتبت بعد غيابه.

و على هذا الأساس يعتقد الكثير من الباحثين و المحقّقين أنّ هذه الأناجيل الأربعة إنما هي من الكتب الأدبية الّتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني من الميلاد.

فلو كانت الميزات الخاصّة بعيسى محفوظة، لكان ذلك دليلا على حقيقة وجوده و أصالة حياته و زعامته، و ما كان هناك مجال لإثارة الشكوك و الاستفهامات من قبل المستشرقين ذوي الخيالات الواهية.

أمّا المسلمون فهم يواجهون العالم مرفوعي الرأس، و يقولون: يا أيّها الناس لقد بُعث رجل من أرض الحجاز، قبل ألف و أربعمائة سنة لقيادة المجتمع البشري، و قد حقّق نجاحاً باهراً في مهمّته و هذه آثار حياته محفوظة تماماً في مكّة و المدينة، فهذه الدار الّتي وُلد فيها، و هذا غار حراء مهبط الوحي و النازل عليه، و هذا هو مسجده الّذي كان يُقيم الصلاةَ فيه، و هذا هو البيت الّذي

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 49 )

دُفن فيه، و هذه بيوت أولاده و زوجاته و أقربائه، و هذه قبور ذرّيته و أوصيائه ـ عليهم السلام ـ .

و الآن، إذا قضينا على هذه الآثار فقد قضينا على معالم وجوده ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ و دلائل أصالته وحقيقته، و مهَّدنا السبيل لأعداء الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوّة و آثار أهل بيت العصمة و الطهارة ليس فقط إساءة إليهم ـ عليهم السلام ـ و هتكاً لحرمتهم، بل هو عداء سافر مع أصالة نبوَّة خاتم الأنبياء و معالم دينه القويم.

إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبديَّة، و سوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء حتى يوم القيامة، و لابدّ للأجيال القادمة ـ على طول الزمن ـ أن تعترف بأصالته و تؤمن بقداسته، و لأجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ ـ أبداً ـ على آثار صاحب الرسالة المحمّدية ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لكي نكون قد خطونا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين و بقائه على مدى العصور القادمة، حتى لا يُشكّك أحدٌ في وجود نبي الإسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما شكّكوا في وجود النبىّ عيسى ـ عليه السلام ـ .

لقد اهتمّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ و سيَره و سلوكه حتى أنّهم سجَّلوا دقائق أُموره و خصائص حياته و مميّزات شخصيته، حتى أنّهم سجّلوا ما يرتبط بخاتمه و حذائه و سواكه و سيفه و درعه و رمحه و جواده وإبله و غلامه، و حتّى الآبار الّتي شرب منها الماء، و الأراضي الّتي أوقفها لوجه اللّه سبحانه، و الطعام المفضّل لديه، بل و كيفيّة مشيته و أكله و شربه، و ما يرتبط بلحيته المقدّسة و خضابه لها، و غير ذلك، و لا زالت آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا.(1)

ــــــــــــــــــــــ

1. راجع طبقات الصحابة لابن سعد: 1/360ـ503 حول هذا الموضوع.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 50 )

و من خلال مراجعة تاريخ المسلمين و تفقّد البلاد الإسلامية الواسعة و استطلاع معالمها وآثارها يظهر لنا ـ بوضوح ـ أنّ البناء على القبور و صيانتها من الزوال و الفناء كان شيئاً متداولا عند كافّة المسلمين في أنحاء الوطن الإسلامي الكبير، و لا زالت هناك الضرائح المشيَّدة على قبور الأنبياء و الأولياء و الرجال الصالحين، و يقصدها المسلمون بالزيارة و الدعاء، و تُعتبر تلك الضرائح من الآثار التاريخية الإسلامية، و هناك الموقوفات الكثيرة الّتي تُصرف عائداتها لحفظ هذه الآثار و صيانتها و نظافة الساحات المحيطة بها، و غير ذلك.

و لقد كانت قبور أولياء اللّه عامرة و مشيَّدة حتى في الحجاز نفسها ـ كانت حتى قبل فتنة الوهّابيّة و احتلالها للحرمين الشريفين و ضواحيهما ـ كانت قبور أولياء اللّه في كافّة أرجاء الحجاز عامرة ومشيّدة، تحظى باهتمام المسلمين كافّة، و لم يكن هناك أىّ عالم ديني يستنكر بقاءها أو يعترض على بنائها و تعميرها.

و ليست ايران هي البلد الوحيد الّذي تتواجد فيها الضرائح المشيَّدة على قبور أولياء اللّه تعالى، بل إنّ ذلك موجود في البلدان الإسلامية، و خاصّة في مصر و سوريا و العراق و المغرب وتونس و الأردن، فهناك المقابر المعمورة للعلماء و كبار المسلمين، و يقوم المسلمون بزيارتها أفواجاً أفواجاً، و يبتهلون إلى اللّه تعالى بتلاوة القرآن ـ و خاصّة سورة الفاتحة ـ و إهداء ثوابها إلى روح صاحب القبر الّذي جاءوا لزيارته.

كما أنّ لكلّ من هذه المراقد المشيَّدة موظّفين يقومون بالخدمة و الحراسة والنظافة والصيانة و غيرها.

مع كلّ ما سبق... كيف يمكن اعتبار تعمير القبور حراماً، مع أنّ العادة المتَّبعة

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 51 )

عند المسلمين منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا كانت و لا زالت جارية على ذلك، و هذا ما يُسمّيه الفقهاء و العلماء بـ «سيرة المسلمين» و هي الّتي تمتدّ جذورها إلى زمن رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو زمن أحد من الأئمة الطاهرين من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ .

إنّ هذه السيرة الحسنة تمنح المسلمين الجوازللبناء على قبور أولياء اللّه، و بالأحرى ترغّبهم و تشجّعهم على ذلك و لم تتعرّض هذه السيرة ـ طوال وجودها ـ لأىّ نقد أو اعتراض، وهذا يكشف عن أصالتها و صحتها عند المسلمين طوال التاريخ ـ و أنّها كانت من السُّنن المتَّبعة عندهم.

و قد اعترف بهذه الأصالة أحد الكتّاب الوهّابيّين فكتب يقول:

هذا أمرٌ عمَّ البلاد و طبق الأرض شرقاً و غرباً، بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ وفيها قبور ومشاهد، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر أو مشهد، و لا يسَع عقلُ عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة و يسكت عليه علماء الإسلام .(1)

و بالرغم من اعتراف هذا الوهّابي بأنّ سيرة المسلمين قائمة على إعمار قبور أولياء اللّه وتكريمها، فإنه لا يكفّ عن عناده وسوء سريرته، فتراه يعتبر ذلك منكراً و يستنكر سكوت العلماء عليه، و أنّ سكوت أُولئك ـ في تلك الفترة الطويلة ـ لا يمنع من نهي العلماء عنه في هذه الفترة.

ولكن الردّ عليه واضح: فكيف سكت العلماء سبعة قرون و لم ينطقوا ببنت شفة؟!

ــــــــــــــــــــــ

1. تطهير الاعتقاد: 17 بتلخيص، طبعة مصر.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 52 )

فهل كان هؤلاء جميعاً ـ طوال هذه القرون ـ يسكتون على المنكر و يتحفّظون عن النهي عنه ـ على ما زعم ـ؟!

و عند ما فتح المسلمون بيت المقدس ـ في عهد عمر بن الخطاب ـ لماذا لم يأمر عمر بهدم قبور الأنبياء هناك؟! فهل تعتبرونه مسالماً للمشركين؟!

عود إلى جواب علماء المدينة

و أغرب ما في المقام هو الجواب المنسوب إلى علماء المدينة... حيث قالوا:

«أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً، لصحة الأحاديث الواردة في منعه، و لهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه».

كيف يصحّ دعوى الإجماع على تحريم البناء على القبور في حين أنّ المسلمين قد دفنوا رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في البيت الّذي كانت تسكنه عائشة؟ ثم دفنوا ـ من بعده ـ أبابكر و عمر إلى جواره للتبرّك، و بعدها أقاموا جداراً في وسط البيت، ليصبح نصفها منزلا للسيّدة عائشة و النصف الآخر مقبرة لرسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ و أبي بكر و عمر، و بما أنّ ارتفاع الجدار كان قليلا فقد زيد في ارتفاعه في زمن عبداللّه بن الزبير، ثم كان هذا البيت ـ المقبرة ـ يتجدّد أو يُعاد بناؤه بين حين و آخر على مرّ العصور و الأزمان، وفقاً للفنّ المعماريّ الخاصّ بكلّ عصر، و في عهد الأُمويّين و العبّاسيّين كان البناء على القبر يحظى باهتمام بالغ، و كان يتجدّد كما يقتضيه الفنّ المعماريّ الخاصّ بكل عصر.

و آخر بناء أُقيم على القبر الشريف ـ و الّذي لازال حتى الآن ـ كان في عهد

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 53 )

السلطان عبدالحميد في عام 1270 هـ و استغرق أربع سنوات، و بإمكانك ـ أيّها القارئـ مراجعة كتاب «وفاء الوفا» للسمهودي ـ من صفحة 383 إلى صفحة 390 ـ للحصول على تفاصيل أُخرى حول ما مرَّ على مرقد رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من بناء و تجديد و تعمير، طوال التاريخ الإسلامي، و حتى عصر السمهودي، و من بعده في الكتب الخاصّة بتاريخ المدينة المنوّرة.

ج ـ حديث أبي الهيّاج

و الآن قد حان الوقت في أن نبحث في الحديث الّذي يتمسّك به الوهّابيّون في حرمة البناء على القبور.

قبل كلّ شيء نذكر نَصّ الحديث بالسَّند الّذي رواه مسلم في صحيحه:

«حدَّثَنا يَحْيى بنْ يَحْيى وَ أبُوبَكْر بن أبي شَيْبَةَ وَ زُهَيْر بن حَرْب، قال يَحْيى: أخْبَرَنا ـ وَ قال الآخران: حدَّثنا ـ وَ كيعٌ عَنٌ سُفْيانَ عَن حَبيب بن أبي ثابِت، عَنْ أبي وائِل، عَنْ أبي الهَيّاج الأسدي قالَ: قالَ لي عَلىُّ بن أبي طالِب: ألا أبعَثُكَ عَلى ما بَعَثَني عَلَيْهِ رَسُولُ اللّه أنْ لا تَدَعَ تِمْثالا إلاّ طَمَسْتَه وَ لا قَبْراً مُشْرِفاً إلاّ سَوَّيْتَهُ»(1).

لقد اتّخذ الوهّابيّون هذا الحديث دليلا على حرمة البناء على القبور، من دون أىّ تحقيق في رجاله و سَنده ولا في متنه ودلالته.

ــــــــــــــــــــــ

1. صحيح مسلم: 3/61، كتاب الجنائز; السُّنن للترمذي: 2 / 256، باب ما جاء في تسوية القبر; السنن للنسائي: 4/88 ، باب تسوية القبر .

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 54 )

مُناقشة الحديث

بصورة عامّة إذا أردنا الاستدلال بحديث من الأحاديث على حكم من أحكام اللّه تعالى، فلابدَّ أن يتوفَّر في ذلك الحديث هذان الشرطان:

1ـ صحة السند: بأن يكون رواة الحديث و رجاله ـ في جميع المراحل و الطبقات ـ رجالا ثقاتاً يمكن الاعتماد عليهم و على أقوالهم.

2ـ دلالة الحديث: بأن تكون في ألفاظ الحديث و عباراته دلالة كاملة على مقصودنا منه، بحيث يفهمه غيرنا ـ ممّن يُحسن لغة ذلك الحديث و يعرف قواعدها ـ بمثل ما نفهمه نحن و يستنتج ما نستنتجه.

و من حُسن الحظ أنّ حديث أبي الهيّاج فاقد لهذين الشرطين، و خاصّة للشرط الثاني، فلا علاقة له بالبناء على القبور إطلاقاً.

توضيح ذلك:

أمّا بالنسبة إلى السند، ففيه رواة لم تتّفق كلمة علماء الرجال على وثاقتهم، و فيما يلي نذكر أسماء الرواة ـ في هذا الحديث ـ الذين رفض علماء الرجال أحاديثهم:

1ـ وكيع.

2ـ سفيان الثوري.

3ـ حبيب بن أبي ثابت.

4ـ أبو وائل الأسدي.

هؤلاء الرواة الأربعة انتقدهم الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ في كتابه تهذيب التهذيب ـ وذكرهم بما يسلب الثقة من حديثهم هذا و أحاديثهم الأُخرى.

-------------------------------------------------------------------------------

ص ( 55 )

1ـ فبالنسبة إلى «وكيع»، يروي الحافظ العسقلاني عن أحمد بن حنبل ـ إمام الحنابلة ـ أنّه قال فيه:

«إنّه أخطأ في خمسمائة حديث».(1)

و يقول أيضاً نقلا عن محمّد بن نصر المروزي:

«كان وكيع[ يحدّث] بالمعنى و لم يكن من أهل اللسان».(2)

2ـ و بالنسبة إلى «سفيان الثوري» يقول العسقلاني عن ابن مبارك:

«حدَّث سفيان بحديث، فجئتُه و هو يُدلّسه، فلّما رآني استحيا».(3)

إنّ التدليس ـ بأىّ معنى كان ـ في الحديث يدلّ على أنّ الراوي المدلّس كان فاقداً لملكة العدالة و الصدق، و لذلك كان يُصوِّر غير الواقع واقعاً، كما هو معنى التدليس في اللغة .

و عند ترجمة حياة يحيى القطّان، يقول الحافظ العسقلاني: إنّ يحيى القّطان قال:

«جَهد سفيان الثوري أن يُدلّس علىَّ رجلا ضعيفاً فما أمكنه».(4)

3ـ و بالنسبة إلى «حبيب بن أبي ثابت»، كتب العسقلاني نقلا عن ابن حبان إنّه :

«كان مُدلّساً».(5)

ــــــــــــــــــــــ

1. تهذيب التهذيب للعسقلاني: 11/125.

2. المصدر السابق: 11/130.

3. المصدر السابق: 4/115.

4. المصدر السابق: 11/218.

5. تهذيب التهذيب، 2/179.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 56 )

و كتب نقلا عن قطّان: إنّ حبيباً:

«لا يتابَع عليه، و ليست بمحفوظة».(1)

4ـ و أمّا بالنسبة إلى «أبي وائل» فقد كان من المنحرفين عن الإمام علي أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ وممّن نَصب العداء و البغضاء له ـ عليه السلام ـ (2) فكيف يُعتمد عليه و قد قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :

«يا عَلىُّ لا يُحِبُّكَ إلاّ مُؤمِنٌ، وَ لا يُبْغِضُكَ إلاّ مُنافِقٌ».(3)

و الجدير بالذكر: أنّ راوي الحديث (أبو الهيّاج) ليس له حديث في كلّ الصحاح الستة ـ من أوّلها إلى آخرها ـ إلاّ هذا الحديث فقط، فماذا تقول في رجل ليست له إلاّ رواية واحدة؟!

إنّ هذا يدلّ على أنّ الرجل ليس من رجال حلبة الحديث، و على هذا الأساس فالاعتماد على حديثه لا يخلو من إشكال.

أيّها القارئ الكريم: هذا سَند حديث أبي الهيّاج، و قد عرفت ضعف رواته و عدم اتفاق علماء الرجال عليهم، فإذا كان الحديث محفوفاً بهذه الإشكالات المتعدّدة، فلا يمكن لأىّ فقيه أن يستند عليه في استنباط الحكم و إصدار الفتوى.

و أمّا دلالة الحديث فلا تقلّ إشكالا عن السند ذاته، إذ أنّ النقطة المهمّة الّتي يستشهدون بها ـ في هذا الحديث ـ هو قوله:

ــــــــــــــــــــــ

1. نفس المصدر السابق.

2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9/99.

3. مجمع الزوائد للهيثمي: 9/133، روى قريباً منه الترمذي في صحيحه: 2/301، مسلم في صحيحه: كتاب الايمان و غيرهم.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 57 )

«وَ لا قَبْراً مُشْرِفاً إلاّ سوَّيْتَهُ».

و هنا لابدّ من وقفة تأمّل و تحقيق عند كلمتي:

1ـ مشرفاً.

2ـ سوّيته.

1ـ إنّ لفظة «المشرف» معناه: العالي و المرتفع. قال في المنجد:

«المشرف من الأماكن: العالي و المطلّ على غيره».

و قال صاحب القاموس ـ و هو أكثر أصالة في ترتيب معاني الألفاظ ـ:

«الشَّرَف ـ محرّكة ـ: العلو، و من البعير: سنامه».

إذن: معنى «مشرف» هو الارتفاع المطلق، و خاصّة الارتفاع الّذي على شكل سنام البعير.

فيجب هنا ـ مع الانتباه و الالتفات إلى القرائن ـ أن نبحث عن المعنى المراد من «المشرف» في الحديث.

2ـ لفظة «سوّيته» معناها: جعْل الشيء متساوياً، و تقويم المعوج .

سوّى الشيء: جعَله سويّاً، يقال: سوّيتُ المعوجَّ فاستوى: صنعتُه مستوياً.

و جاء في القرآن الكريم:

(الَّذي خَلَقَ فَسَوَّى)(1).

بعد الاطّلاع على معاني المفردات، يجب أن نعلم، ما هو المقصود من هذا الحديث؟

ــــــــــــــــــــــ

1. الأعلى: 2.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 58 )

الواقع: لهذا الحديث في بدء النظر احتمالان، و لابدّ من تعيين أحدهما على ضوء معاني المفردات و الدلائل الأُخرى.

الاحتمال الأوّل: أن يكون الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قد أمر أبا الهيّاج بهدم القبور المرتفعة، و تسويتها مع الأرض تماماً.

ولكن هذا الاحتمال ـ الذي يتمسّك به الوهّابيّون ـ مردود و مرفوض لعدَّة أسباب ـ:

أوّلا: لأنّ لفظة «التسوية» لم تأت ـ في اللغة ـ بمعنى الهدم و التدمير ، و لو كان المقصود به هنا هو ذلك لكان المفروض أن يقال: « و لا قبراً إلاّ سوّيته بالأرض» و الحديث يخلو من ذلك.

ثانياً: لو كان المقصود منه هو الهدم، فلماذا لم يُصدر أحدٌ من علماء الإسلام الفتوى بذلك؟!

بالإضافة إلى أنّ تسوية القبر بالأرض هي خلاف للسنَّة الإسلامية والاستحباب الشرعي، إذ أنّه يُستحب شرعاً أن يكون القبر مرتفعاً عن الأرض ، و قد أفتى جميع فقهاء الإسلام باستحباب ارتفاع القبر عن الأرض شبراً واحداً.

جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ـ الذي يُطابق فتاوى أئمة المذاهب الأربعة ـ ما يلي:

«و يندب ارتفاع التراب فوق القبر بقدر شبر»(1).

فإذا كان هذا الاحتمال الأوّل مردوداً، وجب أن نُفسّر الحديث بالاحتمال الآتي.

ــــــــــــــــــــــ

1. الفقه على المذاهب الأربعة: 1/420.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 59 )

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود من تسوية القبر هو جعل سطحه مستوياً و مسطّحاً، بعكس القبور التي تُبنى على شكل ظَهر السَّمك و سنام البعير، و على هذا الأساس فإنّ الحديث يعني أن يكون سقف القبر مسطّحاً و مستوياً، و لا يجوز أن يكون كظهر السَّمك أو مُسنَّماً، كما هي العادة عند بعض أهل السَّنة، و قد أفتى أئمة المذاهب الأربعة ـ باستثناء الشافعي ـ باستحباب تسنيم القبر.(1)

و بذلك فإنّ هذا الحديث يؤيّد فتوى علماء الشيعة الذين يقولون بأنّ القبر ينبغي أن يكون مسطّحاً و مستوياً في نفس الوقت الذي يكون مرتفعاً عن الأرض.

و تجدر الإشارة إلى أنّ مسلماً أورد في صحيحه حديث أبي الهيّاج و حديثاً آخر ـ سنذكره ـ تحت عنوان: باب الأمر بتسوية القبر، و كذلك ذكره الترمذي و النسائي في سُننهما تحت نفس العنوان، و المقصود من هذا العنوان هو أن يكون القبر مسطّحاً و مستوياً، ولو كان المقصود منه تسوية القبر بالأرض لكان المفروض تسمية الباب المذكور بـ «باب الأمر بتخريب القبور و هدمها».

و إليك الحديث الآخر الّذي ذكره مسلم في صحيحه ـ و الّذي يحتوي نفس المضمون الّذي اخترناه ـ:

«كُنّا مَعَ فَضالَة بن عُبَيْد بِأرْضِ الرُّوم بِـ «رَوْدَس» فَتُوُفِّيَ صاحِبٌ لَنا، فَأمَر فَضالة بن عُبَيْد بقبره فَسُوِّي ثُمَّ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه يَأمُرُ بِتَسْويَتها».(2)

ــــــــــــــــــــــ

1. نفس المصدر السابق. و فيه: و يُجعل كسنام البعير، و قال الشافعي: جعل التراب مستوياً مسطّحاً أفضل من تسنيمه.

أقول: فعلى هذا فإنّ حديث أبي الهيّاج لا يُعمل به إلاّ في المذهب الشافعي و المذهب الشيعي.

2. صحيح مسلم، ج 3 كتاب الجنائز ص 61.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 60 )

و الخلاصة: إنّ مفتاح معرفة هذا الحديث يكمن في لفظ «سوّيته» و فيه احتمالان، و مع الانتباه إلى الدلائل و القرائن لابدّ من انتخاب احتمال واحد.

و الاحتمالان بهما:

1ـ أن يكون المعنى هو تسوية القبر مع الأرض.

و هذا الاحتمال مردود ، ـ مضافاً إلى أنّ السنَّة القطعيّة تقتضي إرتفاع القبر عن الأرض شبراً واحداًـ لأنّه لو أُريد ذلك يجب أن يقال: سويته بالأرض مثل قوله سبحانه (إذ نسوّيكم برب العالمين)(1) فإذا حاول أن يصف مساواة شيء وبشيء، يقول سويت هذا بهذا، ولايقول: سويت هذا، من دون ذكر للمفعول الثاني كما جاء في الحديث (سويته).

2ـ أن يكون المعنى هو تسطيح القبر، و تعديل ما فيه من اعوجاج، و الحيلولة دون تسنيمه كظهر السمك و سنام البعير.

و هذا هو المتعيَّن، و على هذا فلا علاقة له بمقصود الوهّابي الّذي استدلّ به.

و هلم معي إلى ماذكره العلاّمة النووي ـ شارح صحيح مسلم ـ لنرى كيف يشرح الحديث و يقول:

«إنّ السنَّة أنّ القبر لا يُرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، و لا يُسنَّم، بل يُرفع نحو شِبر و يُسطّح».(2)

يظهر من هذه العبارة أنّ شارح صحيح مسلم قد استنبط نفس المعنى الّذي استنبطناه من هذا الحديث، بأنّ الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أوصى أبا الهيّاج بتبديل

ــــــــــــــــــــــ

1. الشعراء: 98.

2. شرح صحيح مسلم للنووي: 7 / 36 .

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 61 )

القبور المسنَّمة ـ أو الّتي على شكل ظهر السمك ـ إلى قبور مسطّحة، و لم يأمر بتسوية القبور بالأرض.

و لم ننفرد نحن ولا «النوويّ» في استنباط هذا المعنى من هذا الحديث، بل قال به الحافظ القسطلاني في كتاب «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري»، فبعد ما يذكر أنّ السنّة في القبر تسطيحه و أنّه لا يجوز ترك هذه السنّة، لمجرّد أنّها صارت شعاراً «للروافض» و أنه لا منافاة بين التسطيح و حديث أبي الهيّاج... يقول:

«... لأنه لم يُرد تسويته بالأرض و إنما أراد تسطيحه، جمعاً بين الأخبار».(1)

بعد هذا كلّه، لو كان المعنى، في وصيّة الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ لأبي الهيّاج ـ هو هدم القباب و البناء المشيَّد على القبور، فلماذا لم يأمر ـ عليه السلام ـ بهدم القباب الّتي كانت على قبور الأنبياء في زمانه؟!

مع العلم أنّه ـ عليه السلام ـ كان يومذاك الحاكم المطلق على البلاد الإسلامية كلّها، و كان يعلم بالقباب المشيَّدة على قبور الأنبياء في كلّ من فلسطين و سوريا و العراق و مصر و إيران و اليمن.

و مع غضّ النظرعن ذلك كلّه، و لو فرضنا أنّ الإمام ـ عليه السلام ـ أمر أبا الهيّاج بهدم القبور المرتفعة و تسويتها مع الأرض تماماً، فليس في الحديث ما يدلّ على وجوب هدم البناء المشيَّد على القبور، ذلك لأنّ الامام ـ عليه السلام ـ قال لأبي الهيّاج ـ على فرض صحة الحديث ـ :

«و لا قبراً إلاّ سوّيته».

ــــــــــــــــــــــ

1. إرشاد الساري: 2/468.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 62 )

و لم يقل: «و لا بناءً و لا قبَّة إلاّ سوّيتهما» مع العلم أنّ البحث ليس عن القبر نفسه و إنّما عن الأبنية المقامة عليه، هذه الأبنية الّتي يستظلّ المؤمنون بظلالها، لتلاوة القرآن و الدعاء و إقام الصلاة، فهل في هذه العبارة ما يدلّ على هدم هذه الأبنية و الآثار الّتي تُساعد الزوّار على العبادة وتصونهم عن الحرّ و البرد؟!

احتمالان... في النهاية

و في النهاية و ختام البحث هناك احتمالان آخران، لا مناصّ من ذكرهما إتماماً للموضوع.

الاحتمال الأوّل: أن يكون هذا الحديث ـ و ما يشابهه ـ إشارة إلى ما كان متعارفاً عند بعض الأُمم السابقة، من اتّخاذ قبور الصالحين قبلة لعباداتهم يتوجّهون إليها عند العبادة، و كانوا ينصبون صورةً إلى جانب القبر، و بذلك يتركون التوجّه إلى القبلة الّتي أمرهم اللّه تعالى بالتوجّه إليها حال العبادة.

و على هذا الاحتمال فلا يمكن أن تكون لهذا الحديث أيّة صلة بقبور المسلمين، و لم يُعهد من أىّ مسلم أن يتوجَّه إليها في الصلاة أو يسجد عليها، بل جرت سيرة المسلمين على الصلاة بجوار القبور، من دون أن تكون قبلة لهم، بل وجوهُهم نحو الكعبة، يقيمون الصلاة و يتلون كتاب اللّه و هم بجوار القبور.

و إذا كان المسلمون يتسارعون إلى زيارة قبور أولياء اللّه الصالحين، و يقضون هناك ساعات في عبادة اللّه تعالى بجوار تلك المراقد المقدَّسة، فإنما هو بسبب ما اكتسبته تلك الأرض من الشرف و القدسيّة بسبب احتضانها لذلك الجسد الطاهر.

و لهذا البحث تفصيل قادم.

--------------------------------------------------------------------------------

ص ( 63 )

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود من قوله ـ عليه السلام ـ لأبي الهيّاج: «أنْ لا تَدَع تمثالا إلاّ طمستَه و لا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيتَه» أن يكون المقصود من «التمثال» تصاوير الأصنام، و من «القبر» قبور المشركين الّتي كانت مشمولة بالعطف و العناية من ذويهم.

و الخلاصة: أنّ حديث أبي الهيّاج لا علاقة له بالبناء على قبور الاولياء أصلا، بل هو بشأن القبور المسنَّمة، أو بشأن قبور المشركين و تماثيل الأصنام.

و فيما يلي نذكر فتوى أئمة المذاهب الأربعة حول البناء على القبور:

«يكره أن يُبنى القبر ببيت أو قبّة أو مدرسة أو مسجد».(1)

فما دام أئمة المذاهب الأربعة متّفقين على كراهية البناء على القبور... فكيف يتجرّأ قاضي نجد على الفتوى بحرمة البناء؟!!

(إنْ هذا إلاّ اختلاق).(2)

مع العلم أنّ الحكم بالكراهة لا دليل صحيح عليه، مع قيام السيرة بين المسلمين على خلافها و خاصّة إذا كان البناء مساعداً للزائر لإقامة الفرائض الدينية و تلاوة القرآن الحكيم عند القبر الّذي يُقام عليه البناء.

ــــــــــــــــــــــ

1. الفقه على المذاهب الأربعة: 1/421.

2. ص: 7.

 ----------------------------------------------

* أخذنا هذا المقطع من كتاب (الوهابية في الميزان) للعلامة الشيخ جعفر السبحاني،  ص: 29- 63، الفصل الثاني .

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى