في آداب زيارة مراقد الاَئمة عليهم السلام

إنّ من تمام الوفاء بالعهد لهم عليهم السلام زيارة قبورهم.. رغبةً في زيارتهم، وتصديقاً لما رغبوا فيه، كما ورد عن الاِمام الرضا عليه السلام في ما تقدّم، من أجل ذلك، وحفظاً لسنن الشريعة وآدابها، لا نجد واحداً منهم عليهم السلام إلاّ وقد ورد في آداب زيارته وما يقال عنده ما فيه غنىً لقاصديهم، تعليماً وتأديباً، وما في حفظه براءة من كلّ محدَثٍ مبتَدع من الاَمور التي قد تصدر هنا أو هناك عن بعض زوار القبور، لجهالة أو لغفلة، وفيه البراءة أيضاً من كل ما لا يليق بمقاماتهم الشريفة.. ولكون هذه الآداب والتعاليم متشابهة، نكتفي بذكر القليل منها:
1 ـ في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام ، عن أبي عبدالله عليه السلام : «إذا أردت زيارة قبر أمير المؤمنين عليه السلام فتوضّأ واغتسل وامشِ على هنيئتك، وقل: الحمد لله الذي أكرمني بمعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن فرض طاعته، رحمةً منه وتطوّلاً عليَّ بالاِيمان..
الحمد لله الذي سيّرني في بلاده، وحملني على دوابه، وطوى لي البعيد ودفع عني المكروه حتى أدخلني حرم أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... الحمد لله الذي جعلني من زوّار قبر وصي رسول الله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأشهد أنّ علياً عبد الله وأخو رسوله.
ثمَّ تدنو من القبر وتقول: السلام من الله والتسليم على محمد أمين الله...» ثمَّ ذكر تسليماً يعدِّد فيه خلال وخصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحميدة، ثمَّ التسليم على أمير المؤمنين بنحو ذلك ويكثر من الصلوات عليهما وعلى آلهما، في ذكر طويل
(1).

غير انّ هناك نصّاً آخر مختصراً جامعاً لزيارته عليه السلام روي عن الاِمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، جاء فيه:« تقول عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام : السلام عليك يا ولي الله، أنت أول مظلوم، وأول من غُصِبَ حقّه، صبرت واحتسبت حتى أتاك اليقين.. وأشهد أنّك قد لقيت الله وأنت شهيد.. عذَّب الله قاتلك بأنواع العذاب وجدد عليه العذاب.. جئتك عارفاً بحقّك، مستبصراً بشأنك، معادياً لاَعدائك ومن ظلمك، ألقى على ذلك ربّي إن شاء الله، يا ولي الله إنّ لي ذنوباً كثيرةً فاشفع لي إلى ربّك عزّوجلّ، فإنّ لك عند الله مقاماً محموداً، وأنّ لك عند الله جاهاً وشفاعةً، وقال تعالى: ( ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى (2).
فالاغتسال قبل الدخول، ثمَّ الدخول بوقار واحترام وتواضع، والوقوف أولاً عن بعد وأداء السلام اللائق بعد تقديم الحمد لله تعالى والثناء عليه بما هو أهله، ثمَّ الدنو من القبر، وتجديد السلام بأليق الاَلفاظ وأجمعها لخصاله، ثمَّ الاِستشفاع به إلى الله تعالى على هذا النحو المذكور، وما يدور في مضمونه، تلك هي صورة الزيارة التي نقرأها في تراث أهل البيت عليهم السلام ، مع ما ورد من جواز مس القبر تبركاً به.
ثمَّ يحسن بعد ذلك أداء الوداع لصاحب القبر المزور قبل الخروج، كما يودّع لو كان حياً، وفيه من حسن الاَدب ما لا يخفى، ومما يقال فيه بعد تجديد السلام والعهد بالولاء: «اللهم إنّي أسألك أن تصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ، ولا تجعله
آخر العهد من زيارته، فإن جعلته فاحشرني مع هؤلاء الميامين الاَئمّة»(3).
2 ـ وهكذا ورد أيضاً مع كل زيارة، فبعد أداء الزيارة للاِمام الحسن عليه السلام : «تقف عند قبره كوقوفك عليه عند الزيارة، وتقول: السلام عليك يا ابن رسول الله، السلام عليك يا مولاي ورحمة الله وبركاته، استودعك الله وأسترعيك، وأقرأ عليك السلام، آمنّا بالله وبالرسول وبما جئت به ودللت عليه، اللهم اكتبنا مع الشاهدين.. ثمَّ تسأل الله حاجتك وأن لا يجعله آخر العهد منك»
(4).
3 ـ وفي زيارة قبر الاِمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام ورد التأكيد أوّلاً على الاغتسال بماء الفرات، ثمَّ تراعى الخطوات الآنفة، مع ملاحظة ما يخصّه عليه السلام من وقائع وأحداث: «إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام فائت الفرات واغتسل بحيال قبره، وتوجّه إليه وعليك السكينة والوقار حتى تدخل إلى القبر، من الجانب الشرقي، وقل حين تدخله: السلام على ملائكة الله المنزلين» ويكرر السلام على ملائكة الله ببعض خصالهم «فإذا استقبلت قبر الحسين عليه السلام ، فقل: السلام على رسول الله» ويستغرق في السلام والصلاة عليه، ثمَّ على أمير المؤمنين عليه السلام ، ثمَّ الاِمام الحسن عليه السلام ، ثمَّ الاِمام الحسين عليه السلام ، ثمَّ سائر الاَئمة «ثمَّ تأتي قبر الحسين فتقول: «السلام عليك يا ابن رسول الله» ويستغرق في التسليم عليه بأجمل خصاله، وكل خصاله جميلة، ويؤكد الولاء له، والبراءة من أعدائه «ثمَّ اجلس عند رأسه وقل: صلّى الله عليك،
أشهد أنّك عبدالله وأمينه، بلّغت ناصحاً وأدّيت أميناً، وقُتلت صدّيقاً، ومضيت على يقين، ولم تؤثر عمىً على هدى، لم تَمِلْ من حقٍّ إلى باطل.. أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، واتّبعت الرسول وتلوت الكتاب حق تلاوته، ودعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة...» «ثمَّ تحوّل عند رجليه وتخيّر من الدعاء، وتدعو لنفسك
».
«ثمَّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين» وتسلّم عليه بما يليق بشأنه «ثمَّ تأتي قبور الشهداء وتسلّم عليهم» «ثمَّ ترجع إلى القبر ـ قبر الحسين عليه السلام ـ
... وإذا أردت أن تودعه فقل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أستودعك الله وأقرأ عليك السلام.. اللهم لا تجعله آخر العهد منّا ومنه» ثمَّ يدعو له بالدرجة العالية الرفيعة
(5).
وعلى هذا النحو سار أئمّة أهل البيت عليهم السلام في تعليم المسلمين سنن الزيارة وآدابها بعد أن كانوا قد علّموهم فضيلتها، ورغَّبوهم فيها، وحثّوهم عليها.
فحريٌّ بنا التزام هذه السنن والآداب، والحذر من مجاوزتها وفقاً لذوقٍ خاصٍّ او استحسانٍ عقلي، فكثيراً ما ينزلق الذوق الخاص والاستحسان بصاحبه إلى ما لا أصل له في الشريعة، وأحياناً إلى ما يتناقض مع سنن الشريعة وآدابها، ولنا في ما ثبت عنهم عليهم السلام كفاية في نيل فضيلة الزيارة وشرفها، فلو كانوا يرون في غير ذلك فضلاً لذكروه، وكفى بهذا حجَّةً للمتمسِّك بالسنن، وكفى به زاجراً للخارج عنها.


(1) شفاء السقام:69، ويأتي بتمامه في (التوسل).
(2) نسيم الرياض في شرح الشفا 3 : 517، الغدير 5 : 199.
(3) من كبار الحفّاظ وأهل الفقه والزهد، سمع من أحمد بن حنبل وطبقته، وكان جلساؤه يفضلونه على أحمد بن حنبل، مولده سنة 198، ووفاته سنة 285هـ، سير أعلام النبلاء: 3 : 356 ـ 372.
(4) شفاء السقام:70.

(5) تهذيب الاَحكام 6 : 25.

آداب الزيارة

كغيرها من الاَعمال التي يُتقرّب بها إلى الله تعالى، لابدّ أن تكون للزيارة سنن وآداب، ينبغي التزامها، والعمل بمقتضاها والحذر من مجاوزتها وإغفالها لما قد يجره ذلك عن خروج من السنن أحياناً، ومجاوزة للآداب أحياناً أخرى.
وقد تقدّم في (زيارة القبور وفضيلتها) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه نهى أن يقول الزائر هجراً، أي أن يأتي بالكلام الذي لا يستقيم مع روح الدين الاِسلامي ومقاصده.
ولما كانت زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الاَولياء الصالحين ممّا عمل به المسلمون منذ الصدر الاَول، واستمروا عليه، فقد وجد الاَئمة عليهم السلام وسائر الفقهاء لزاماً تعليم الناس فقه الزيارة وسننها وآدابها، حفاظاً على صورة الدين الحنيف، وعلى صورة هذه الشعيرة من شعائره، فورد عنهم في هذا أثر كثير، يؤكد
بالمرتبة الاَولى إجماعهم على أنّها من سنن هذا الدين، وأنّها من الاَعمال التي يتقرّب بها العبد إلى الله تعالى..
ونكتفي هنا بإيراد نماذج منتخبة، تحقق الغرضين معاً، شرعية الزيارة، ثمَّ سننها وآدابها.
1 ـ في حديث حسن الاِسناد عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام : «إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها، ثمَّ تأتي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمَّ تقوم فتسلّم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمَّ تقوم عند الاسطوانة المقدمة من جانب القبر الاَيمن عند رأس القبر، وأنت مستقبل القبلة، ومنكبك الاَيسر إلى جانب القبر، ومنكبك الاَيمن مما يلي القبر، فإنّه موضع رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأشهد أنّك رسول الله، وأشهد أنّك محمد بن عبدالله، وأشهد أنّك قد بلغت رسالات ربّك ونصحت لاَمّتك وجاهدت في سبيل الله وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين، بالحكمة والموعظة الحسنة، وأدّيت الذي عليك من الحقّ، وأنّك قد رؤفت بالمؤمنين، وغلظت على الكافرين، فبلغ الله بك أفضل شرف محلّ المكرّمين.
الحمد لله الذي استنقذنا بك من الشرك والضلالة، اللهم فاجعل صلواتك وصلوات ملائكتك المقرّبين وعبادك الصالحين وأنبيائك المرسلين وأهل السماوات والاَرضين ومن سبّح لك يا رب العالمين من الاَولين والآخرين على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيبك وحبيبك وصفيّك وخاصّتك وصفوتك وخيرتك من خلقك، اللهم أعطهالدرجة والوسيلة من الجنّة وابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الاَولون والآخرون
.
اللهم إنّك قلت: (
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) وإنّي أتيت نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي، يا رسول الله إنّي أتوجه بك إلى الله ربّي وربّك ليغفر ذنوبي».
قال: « وإذا كان لك حاجة فاجعل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف كتفيك واستقبل القبلة وارفع يديك واسأل حاجتك، فإنّها أحرى أن تُقضى إن شاء الله»
(1).
وفي الحديث ما هو صريح بالتوسل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
أمّا استدبار القبر الشريف أثناء الدعاء فقد ورد مثله في أحاديث أُخر، كما ورد أيضاً استقباله في الدعاء، مما يدل على جواز الاَمرين، وليس في أيّهما مخالفة لاَدب الزيارة أو أدب الدعاء.
2 ـ من حديث الاِمام موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه الباقر عليهم السلام ، قال: «كان أبي علي بن الحسين عليهما السلام يقف على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسلّم عليه، ويشهد له بالبلاغ، ويدعو بما حضره، ثمَّ يسند ظهره إلى المروة
(2) الخضراء الدقيقة العرض مما يلي القبر، ويلتزق بالقبر، ويسند ظهره إلى القبر ويستقبل القبلة، فيقول: اللهم إليك ألجأت أمري، وإلى قبر محمد عبدك
ورسولك أسندت ظهري، والقبلة التي رضيت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم استقبلت...» في دعاء طويل(3).
3 ـ عن محمد بن مسعود، قال: رأيت أبا عبدالله عليه السلام انتهى إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده عليه، وقال: «أسأل الله الذي اجتباك واختارك وهداك وهدى بك أن يصلّي عليك»، ثمَّ قال: (
إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(4).
4 ـ عن الاِمام الصادق عليه السلام : «إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأت المنبر وامسحه بيدك، وخذ برمّانتيه، وهما السفلاوان، وامسح عينيك ووجهك به، فإنّه يقال إنّه شفاء العين. وثمَّ عنده فاحمد الله وأثنِ عليه، وسل حاجتك، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة
(5)، ثمَّ تأتي مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فتصلّي فيه ما بدا لك، فإذا دخلت المسجد فصلِّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك، وأكثر من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم »(6).
وهو صريح بجواز التبرّك بمنبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
5 ـ نصّ زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في (الفقه على المذاهب الاَربعة).
وردت عن أعلام المذاهب الاَربعة نصوص عديدة في زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
إختار منها صاحب كتاب (الفقه على المذاهب الاَربعة) نصّاً موجزاً نسبياً، يتلوه الزائر عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو: «السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنّك رسول الله، فقد بلّغت الرسالة وأدّيت الاَمانة، ونصحت الاَمّة، وجاهدت في أمر الله حتى قبض الله روحك حميداً محموداً، فجزاك عن صغيرنا وكبيرنا خير الجزاء، وصلّى عليك أفضل الصلاة وأزكاها، وأتمّ التحية وأنماها، اللهم اجعل نبيّنا يوم القيامة أقرب النبيين إليك، واسقنا من كأسه، وارزقنا من شفاعته، واجعلنا من رفقائه يوم القيامة، اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبيّنا عليه السلام ، وارزقنا العود إليه يا ذا الجلال والاِكرام»(7).
وفي الفقرة الاَخيرة ما يدلّ على استحبابهم القصد لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم ، غير مقرون بقصد آخر «اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبيّنا عليه السلام ، وارزقنا العود إليه».

إستقبال القبر واستدبار القبلة

تقدّم في حديثي الاِمامين زين العابدين والصادق عليهما السلام استحباب استقبال القبلة وجعل القبر الشريف وراء الكتف حال الدعاء عنده، وقد أشرنا هناك إلى ورود ما يدعو إلى استقبال القبر الشريف حال الدعاء والاستشفاع، وعندها تكون القبلة وراء كتف الزائر. ومما ورد في هذا:
1 ـ عن أبي حنيفة، قال: جاء أيوب السختياني، فدنا من قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فاستدبر القبلة، وأقبل بوجهه إلى القبر، فبكى بكاءً غير متباكٍ
(8).

2 ـ مالك بن أنس: في مناظرة مالك بن أنس وأبي جعفر المنصور في المسجد النبوي الشريف، قال أبو جعفر لمالك: يا أبا عبدالله، أستقبل القبلة وأدعو، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟! بل استقبله، واستشفع به فيشفّعه الله تعالى(1).
3 ـ مذهب الشافعي وأبي حنيفة، والمنقول عن ابن عمر: استقبال القبر واستدبار القبلة.
قال الخفاجي في (نسيم الرياض): استقبال وجهه صلى الله عليه وآله وسلم واستدبار القبلة مذهب الشافعي والجمهور، ونُقل عن أبي حنيفة. وقال ابن الهمام: ما نُقل عن أبي حنيفة أنّه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر: أنّ من السنّة أن يستقبل القبر المكرّم ويجعل ظهره للقبلة. قال: وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة(2).
وقد تقدمت رواية أبي حنيفة عن أيوب السختياني بما يوافقه.
4 ـ إبراهيم الحربي(3): قال في مناسكه: تولّي ظهرك القبلة وتستقبل وسط القبر، وتقول: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته(4).


(1) الكافي 4 : 550 ـ 551|1 ـ كتاب الحج ـ باب دخول المدينة وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، تهذيب الاَحكام 6 : 5|1 باب3.
(2) المروة: الحجر البراق.

(3) الكافي 4 : 551|2.
(
4) الكافي 4 : 552|4.
(
5) الترعة: الباب الصغير.
(
6) الكافي 4 : 553|1، باب المنبر والروضة، تهذيب الاَحكام 6 : 7|5.

(7) الفقه على المذاهب الاَربعة 1 : 713.
(
8) شفاء السقام :74، عن مسند أبي حنيفة، لاَبي القاسم طلحة بن محمد بن جعفر.

الزيارة في تراث السلف

إذا كانت مفردة «السلف» تتسع لاَجيال عديدة، بل هي لغوياً تمتد منذ جيل الآباء صعوداً حتى عهد الرسالة، فإنّنا نقتصر منها هنا على الطبقات العليا، وتحديداً حتى منتصف القرن الثالث، لتشمل عهد الرسالة وعهود الصحابة وأئمة أهل البيت عليهم السلام والتابعين وأئمة الحديث والفقه انتهاءً بأئمة المذاهب الاَربعة. هذه الطبقات التي عاصرت السنن رواية وتدويناً وأسست للفقه وسائر علوم الدين، وإليها ينتهي احتجاج المسلمين بطوائفهم كافة، لنرى كيف كانت زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الاَولياء والصالحين تمثل جزءاً من ثقافة الاَمّة الاَصيلة على امتداد تلك الطبقات. وليس غرضنا فيه الاستقصاء، بل الاكتفاء بما فيه إثبات المطلوب.
وقبر حمزة كان مزاراً للصالحين من الصحابة والتابعين.. وقبر الكاظم موسى مقصداً لمن أدرك وفاته وعاش بعده.. وقبر الرضا علي بن موسى كان ملاذاً لاَهل العلم والصالحين مذ كان القبر.. كل ذلك سنقرأه لاحقاً.. ونقرأ أنّ قبر أبي حنيفة كان ملاذاً للشافعي، يأتيه كل يوم، داعياً ومستشفعاً ومتوسّلاً.. وأنّ
قبر معروف الكرخي (المتوفى 200 هـ) كان عندهم (الترياق المجرّب) يقصده المحتاج والمكروب من كل مكان.
ونقرأ عند الغزالي والنووي والفاخوري وآخرين: أنّ الزائر حين يودّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويفرغ من زيارته، يستحب له أن يخرج كل يوم إلى البقيع، ويخصّ يوم الجمعة، يأتي المشاهد والمزارات، فيزور العباس، ومعه الحسن بن علي، وزين العابدين، وابنه محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق، ويزور أمير المؤمنين عثمان، وقبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وجماعة من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعمته صفية، وكثيراً من الصحابة والتابعين..
ويقول: سلام عليكم بما صبرتم، فنعمى عقبى الدار، سلام عليكم، دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون.
ويقرأ آية الكرسي وسورة الاِخلاص.
أو يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون.. اللهم اغفر لاَهل بقيع الغرقد، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنَّا بعدهم، واغفر لنا ولهم(1).
والآن إلى نماذج من فعل السلف في طبقاتهم الاَولى:

أولاً ـ في عهد الصحابة:
1 ـ الزهراء البتول عليها السلام تزور قبر أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
من حديث الاِمام علي عليه السلام : «لمّا رُمِس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، جاءت فاطمة،
فوقفت على قبره، وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعته على عينيها، وبكت، وأنشأت تقول: ماذا على مَن شمَّ تربةَ أحمـدٍ * أن لا يشُمَّ مـدى الزمان غواليا صُبَّت عليَّ مصائـب لو أنّها * صُبَّت على الاَيـام عُدنَ لياليا(2)

2 ـ أعرابي يزور قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
من حديث علي عليه السلام : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قلتَ فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك، وكان في ما أُنزل عليك: (
ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً ) وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر «قد غُفر لك»(3).
3 ـ عمر يزور قبر غريمه
أخرج المحب الطبري حديثاً طويلاً في ما اتفق بالاَبواء بين عمر وقد خرج حاجاً في نفر من أصحابه، وبين شيخ استغاث به هناك، فلما انصرف عمر من حجّه ونزل ذلك المنزل، استخبر عن الشيخ، فقيل له إنّه قد مات. فوثب عمر مسرعاً، مباعداً بين خطاه، حتى وقف على قبره، فصلّى عليه، ثمَّ اعتنقه وبكى
(4).
فقد هبَّ عمر مسرعاً لزيارة قبر شخص بعينه، ثمَّ اعتنقه وبكى، أما الصلاة المذكورة فالمراد بها الدعاء، وهو الظاهر، وقد يُراد بها الصلاة على الميت.
4 ـ بلال يزور قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام عمر
سأل بلالُ عمرَ أن يقرّه بالشام، قال: وأخي أبو رويحة الذي آخى بيني وبينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ففعل ذلك عمر. ثمَّ إنّ بلالاً وهو بالشام رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له: «ما هذه الجفوة يا بلال! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟» فانتبه حزيناً وجلاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه. فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام فجعل يضمّهما ويقبّلهما. فقالا له: نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان بلال قد ترك الاَذان بعد وفاة رسول الله، فاستجاب لهما، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه. فلما أن قال: «الله أكبر، الله أكبر» ارتجت المدينة.. فلما قال: «أشهد أن لا إله إلاّ الله»، ازدادت رجّتها بأهلها، فلما أن قال: «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» خرجت حتى العواتق من خدورهن، وقالوا: أبُعِثَ رسول الله؟! فما رئي يوم أكثر باكياً وباكيةً بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك اليوم
(5).
ولهذا الخبر إسناد جيد، نذكره لتشكيك منكري شد الرحال للزيارة فيه، اتّباعاً للهوى، لا متابعة لاَصول النقد العلمي.
فقد أسند الخبر إلى: إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، قال: حدّثني أبي محمد بن سليمان، عن أبيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: الخبر... وليس في هذا الاِسناد من يطعن عليه في سائر كتب الرجال.
وروي الحديث بهذا الاِسناد من طريقين، ومداره على (محمد بن الفيض الغساني) وهو الذي يرويه عن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال، ومحمد بن الفيض هذا هو المولود سنة 219هـ ، والمتوفى سنة 315هـ ، قال السبكي: روى عن خلائق، وروى عنه جماعة منهم: أبو أحمد بن عدي، وأبو أحمد الحاكم، وأبو بكر المقرىء في معجمه
(6). هكذا صنع بلال، وهو أحد السابقين إلى الاِسلام، صاحب السيرة المعروفة، وفي عهد عمر، والصحابة متوافرون في المدينة المنوّرة.
5 ـ أمير المؤمنين علي عليه السلام يزور قبر خباب:
خَبّاب بن الاََرَت، من السابقين الاَولين إلى الاِسلام، وكان مع علي عليه السلام بالكوفة وقد مرض مرضاً طويلاً فلم يشهد معه صفين، فلما رجع أمير المؤمنين عليه السلام من صفين، وقف على قبره وأحسن عليه الثناء. قال زيد بن وهب: سرنا مع علي حين رجع من صفين، حتى إذا كنّا عند باب الكوفة إذا نحن بقبور سبعة عن أيماننا، فقال: «ما هذه القبور؟»، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنّ خَبّاب بن الاَرَث توفي بعد
مخرجك إلى صفين فأوصى أن يدفن في ظاهر الكوفة، فدفن الناس عنده، فقال علي رضي الله عنه: « رحم الله خبّاباً، أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتلي في جسمه، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً» ثمَّ دنا من قبورهم، فقال: «السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلف فارط(7)، ونحن لكم تبع عمّا قليل لاحق، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، وأرضى الله عزوجل»(8).
6 ـ عائشة تزور قبر أخيها:
عن عبدالله بن أبي مليكة، أنّ عائشة أقبلت ذات يومٍ من المقابر، فقلت لها: يا أمَّ المؤمنين من أين أقبلتِ؟
قالت: من قبر أخي عبدالرحمن بن أبي بكر. فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى، ثمَّ أمر بزيارتها.
صحَّحه الذهبي
(9).
7 ـ محمد بن الحنفية يزور قبر الحسن السبط عليه السلام:
وقف محمد بن الحنفية على قبر الاِمام الحسن عليه السلام فخنقته العبرة، نطق فقال:
رحمك الله يا أبا محمد، فلئن عزّت حياتك، فلقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الاَنبياء، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، عذّتك أكف الحق، وربيت في حجر الاِسام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، ولا شاكّة في الخيار لك(10).
8 ـ أبو أيوب الاَنصاري يزور قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
اتفق الحاكم والذهبي على صحة الخبر المروي في زيارة أبي أيوب الاَنصاري قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام ولاية مروان على المدينة، أي قبل سنة 64هـ، إذ أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ مروان برقبته، ثمَّ قال: هل تدري ما تصنع؟
فأقبل عليه، فإذا أبو أيوب الاَنصاري، فقال: نعم، إنّي لم آتِ الحَجَر، إنّما جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آتِ الحَجَر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله»
(11).
وفيه أكثر من دلالة:
الاَولى: إنّ علماء الصحابة وأجلاّئهم كانوا يعرفون صحة الزيارة، ويستحبونها، وهو ما صرّح به الترمذي في تعليقته المشار إليها، وستأتي بنصها الكامل لاحقاً.
والثانية: إنّ رجالات بني أمية كانوا ينهون عن ذلك ويستنكرونه.
والثالثة: إنّها إشارة مفيدة إلى تاريخ النهي عن الزيارة وجذوره الاَولى، ولعل هذا الخبر الثابت يكشف لنا عن أقدم ما ورد في النهي عن الزيارة وورود القبر الشريف، وهي ممارسة سياسية، مارسها هذا الوالي الاَموي أيام حكومتهم.
يؤكد هذا جواب أبي أيوب الاَنصاري لمروان، وفيه التصريح الواضح بأنّ بني أمية ليسوا من أهل الدين الاَمناء عليه، بل إنّما يُخشى على الدين منهم، وهذا الذي يصنعه مروان واحدة فقط من الاَحدوثات التي أحدثها وسيحدثها الاَمويون في الدين.
الفائدة
هذه الاَخبار ونظائرها لا تمثل أحداثاً منفردة في تاريخ الصحابة، وإنّما هي أخبار دونت دون سواها لما وافقها من خصوصية، ساعدت على انتشارها، وما هي إلاّ شواهد على واقع الحال الذي كان يعيشه جيل الصحابة والذي لم نعرف عنه في مصدر واحد، ولا في حديث واحد ـ ولو موضوع ـ نهياً عن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحدٍ من الصحابة بعد وفاتهم. وعدم وجود النهي وحده قاطع بالاِثبات، تؤكِّده هذه الاَحداث المروية لما فيها من خصوصيات أفردتها عن العرف السائد. وتؤيده السيرة الثابتة للصحابة والتابعين أنّهم إذا أرادوا الخروج من المدينة أتوا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للوداع، وإذا دخلوا المدينة ابتدأوا بزيارته والسلام عليه. وهذا أمر ثابت أشهر من أن يحتاج إلى برهان، ولم ينكره أحد ممّن له خلاف في بعض شؤون الزيارة وأحوالها.

ثانياً: بعد الصحابة:
1 ـ عمر بن عبدالعزيز استفاض عن عمر بن العزيز أنّه كان يبرد البريد من الشام ليسلّم له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . نقل ذلك أبو بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم النبيل، المتوفى سنة 280هـ في كتابه «المناسك» وقد جرّده من الاَسانيد ملتزماً فيه الثبوت، قال: كان عمر بن عبدالعزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرىء النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلام، ثمَّ يرجع.
وذكره ابن الجوزي أيضاً في كتابه الذي أفرده لمثل هذه الاَخبار، وأسماه «مثير العزم الساكن إلى أشرف الاَماكن»، قال السبكي: نقلته من خطه
(12). ودلالته واضحة ليس على استحباب الزيارة وحسب، بل على شد الرحال لاَجلها أيضاً. ومثله في الدلالة ما ثبت عن بلال رضي الله عنه.
2 ـ الاِمام جعفر الصادق عليه السلام :
وقد سأله أحد أصحابه: إنا نأتي المساجد التي حول المدينة، فبأيها أبدأ؟
قال عليه السلام:«أبدأ بِقُبا، فصلّ فيه، وأكثِر، فإنّه أول مسجد صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه العرصة، ثمَّ ائت مشربة أم إبراهيم فصلّ فيها، فهو مسكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصلاّه، ثمَّ تأتي مسجد الفضيخ فتصلّي فيه، فقد صلّى فيه
نبيك، فإذا قضيت هذا الجانب أتيت جانب أحد فبدأت بالمسجد الذي دون الحرة فصلّيت فيه، ثمَّ مررت بقبر حمز بن عبدالمطلب عليه السلام فسلمت عليه،مررت بقبور الشهداء...» الحديث(13).
وفيه أمر صريح بزيارة قبر سيد الشهداء حمزة خاصة ثمَّ قبور سائر الشهداء رضوان الله عليهم أجمعين.
3 ـ الشافعي يزور قبر أبي حنيفة أخرج الخطيب البغدادي وغيره، عن علي بن ميمون صاحب الشافعي، قال: سمعت الشافعي يقول: إنّي لاَتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد حتى تُقضى
(14). وفيه زيادة على الزيارة، العمل بالتوسل والاستشفاع.
4 ـ أبو علي الخلاّل شيخ الحنابلة وقبر موسى بن جعفر عليه السلام :
الحسن بن إبراهيم، أبو علي الخلاّل، شيخ الحنابلة في وقته، كان يقول: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أحب
(15).

5 ـ أبو بكر بن خزيمة وقبر الرضا عليه السلام:  قال أبو بكر محمد بن المؤمّل: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة (223 ـ 311هـ)، وعديله أبي علي الثقفي (244 ـ 328)، مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة علي بن موسى الرضا بطوس. قال: فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا(16).
وكل ذلك شاهد على التوسل والاستشفاع، بعد القصد إلى الزيارة.
6 ـ أئمة المذاهب الاَربعة وسائر أهل العلم:عند ذكر الحديث الذي أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم من حديث بُريدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمّدٍ في زيارة قبر أمّه، فزوروها فإنّها تذكر الآخرة» أشرنا إلى أن للترمذي تعقيباً على الحديث، وهذا هو نصّه: قال الترمذي: حديث بُريدة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بزيارة القبور بأساً، وهو قول: ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق
(17).
وابن المبارك: هو عبدالله بن المبارك بن واضح، وصفه الذهبي بالاِمام، شيخ الاِسلام، عالم زمانه، وأمير الاَتقياء في وقته.. سمع من هشام بن عروة،
والاَعمش، وموسى بن عقبة، والاَوزاعي، وأبي حنيفة، وابن جريج، وهذه الطبقة، وحدَّث عنه: مَعمر، والثوري، وعبدالرزاق الصنعاني، وابن أبي شيبة وهذه الطبقة، ولد سنة 118، وتوفي سنة 181هـ في مدينة هيت ـ من مدن غرب العراق ـ ودفن فيها.. ونقل الذهبي لبعض الاَفاضل في زيارة قبره: مررتُ بقبر ابن المبارك غَدوةً * فأوسعني وعظاً وليس بناطقِ(18) وإسحاق: هو إسحاق بن راهويه قرين أحمد بن حنبل، وكان أحمد يسميه الاِمام، ويقول: لا أعرف له في الدنيا نظيراً، ولقّبه الذهبي بشيخ المشرق، سيد الحفّاظ ولد سنة 161هـ، وتوفي سنة 238هـ، وله في سير أعلام النبلاء ترجمة واسعة(19).
ـ وقد تقدّم عن الشافعي زيارته قبر أبي حنيفة، وتوسله به، ومداومته على ذلك، ويأتي في (التوسل) توسل أحمد بالشافعي.
ـ وقال مالك بن أنس: لا بأس بمن قدم من سفر، أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيصلّي عليه ويدعو له، ولاَبي بكر وعمر. فقيل له: فإنّ ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربّما وقفوا في الجمعة أو في الاَيام المرّة والمرّتين أو أكثر عند القبور فيسلّمون ويدعون ساعة.
فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الاَمّة إلاّ بما صلح به أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الاَمة وصدرها أنّهم كانوا
يفعلون ذلك، ويكره إلاّ لمن جاء من سفر، أو أراده.
قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلّموا، قال: وذلك رأيي.
قال الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء، لاَن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم
(20).
وفيه فائدتان:
الاَولى: أنّ جمهور الناس في القرن الثاني للهجرة، حيث عاش مالك، كانوا متفقين على المداومة على زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، يصنعون ذلك مراراً، ويدعون عند قبره على الدوام، وهم جيل اتباع التابعين، الذين ورثوا عن التابعين عاداتهم وعباداتهم.
والثانية: أنّ مالكاً، كان يجيز القصد إلى الزيارة، ويحبّذه، فيدعو المسافر أو القادم إلى التوجه لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصداً لذلك.
وهذا ما قاله الباجي في شرح كلام مالك، مؤكداً أنّ قصد الزيارة هو المبرر الذي اعتمده مالك في جوازها، بل استحبابها، قائلاً: لاَنّ الغرباء قصدوا ذلك.أمّا عن رأي مالك، كما قال السبكي، فهو أنّ الزيارة قربة، ولكنه على عادته في سدّ الذرائع يكره منها الاكثار الذي قد يفضي إلى محذور. وهذا واضح في كلام مالك الآنف الذكر، وهو يحبّذها للغرباء والمسافرين.
وأمّا أئمة المذاهب الثلاثة الاَخرى، فهم يقولون باستحبابها واستحباب الاِكثار منها، لاَنّ الاِكثار من الخير خير، وكلهم مجمعون على استحباب الزيارة
(21). ونذكِّر ثانيةً بما أسلفناه عن الشافعي، وما سيأتي عن أحمد.
7 ـ أحمد بن حنبل وزيارة قبر الحسين عليه السلام: في ما ذكره ابن تيمية حول جسد الحسين عليه السلام ، قال: ولكن الذي اعتقدوه هو وجود البدن في كربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى أنّه في مسائله: (مسائل في ما يُفعل عند قبره) أي قبر الحسين عليه السلام ، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير، في زيارة المشاهد
(22).
فهو يثبت زيارة الناس قبر الاِمام الحسين عليه السلام زمن أحمد وغيره، ويثبت أن أحمد لم ينكر عليهم الزيارة، بل يثبت أنّه قد كتب في ما ينبغي أن يفعله الزائر لقبر الحسين عليه السلام ، مراعاةً للسنة في الزيارة.
هذا مع أن ابن تيمية هو أشدّ المنكرين للسفر بقصد الزيارة، وهذه واحدة فقط من هفواته، ولاَجل هذا أفردنا هذا برقم خاص، مع أنّه داخل في الفقرة السابقة.
8 ـ رواية العتبي المتوفى 228هـ في زيارة الاَعرابي
من جميل الاَثر في زيارة سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه محمد بن عبيدالله بن عمرو ابن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان الاَموي، وكان صاحب أخبار وراويةً للآداب، وقد حدّث عن سفيان بن عيينة. وقد أخرج هذه الرواية ابن الجوزي في
(مثير العزم الساكن إلى أشرف الاَماكن) وابن عساكر في (تاريخ دمشق) والقسطلاني بأسانيدهم عن: محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثمَّ قال: يا خير الرسل، إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: ( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيما ً) وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي مستشفعاً فيها بك. ثمَّ بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطـاب من طيبهنّ القاع والاَكمُ
نفسي الفداء لقبرٍ أنـت ساكـنه * فيه الـعفاف وفيه الجود والكرمُ

ثمَّ استغفر وانصرف.
وقد نظم أبو الطيب أحمد بن عبدالعزيز بن محمد المقدسي فيها أبياتاً وضمّنها البيتين، فقال:

أقول والدمـع من عـينيّ منسجمُ    *    لمّا رأيــت جــدار الـقبـرِ يُستَلمُ
والناسُ يغـشـونه باكٍ ومـنقـط
ـعٌ    *    مـن الـمهـابـة أو داعٍ فـملتـزمُ
فما تمالكت أن ناديتُ من حَرَقٍ * في الصدر كادت له الاَحشاء تضطرمُ
(يا خير من دُفنت في القاع أعظمه * فـطـاب من طيـبهـن القاع والاَكمُ
نفسي الفداء لقبــرٍ أنـت ساكنه   *   فيـه العـفاف وفيـه الجود والكرمُ)
وفيه شمس التقى والدين قد غربت * من بعـد ما أشرقت من نورها الظُلُم
حاشا لوجهك أن يبلى وقـد هُدِيَتْ  *  في الشـرق والغرب من أنواره الاَممُ
وأن تمـسّك أيدي الـترب لامسةً     *     وأنـت بيـن السمـاوات العلى علمُ

إلى قوله: لئـن رأينـاه قبـراً إنّ باطـنـه  *  لروضة من رياض الخـلد تبـتسمُ
طـافه به مـن نـواحيــه ملائكـةٌ    *    تغـشـاه في كـل يوم مـا يـوم تزدحـمُ
لـو كنـت أبـصرته حيـاً لقــلت له    *    لا تمشي إلاّ على خـدي لك القدمُ
(23)

خاتمة في كلمات أئمة الحنابلة خاصةً في الزيارة:
أفردنا أئمة الحنابلة خاصة في هذا الموضع لاَنّه أوقع في الرد على متأخريهم، ابتداءً بابن تيمية، الذين ذهبوا إلى تحريم السفر بقصد الزيارة وعدّه من مصاديق الشرك، أو الكفر.
1 ـ أبو الفرج ابن الجوزي (597هـ) صنّف كتاباً بعنوان (مثير العزم الساكن إلى أشرف الاَماكن) وعقد فيه باباً في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقد تقدمت عنه نقول كثيرة.وفي كتابه الآخر« مناقب الاِمام أحمد بن حنبل» ذكر أخباراً عديدةً في زيارة قبر أحمد بن حنبل، يفيد مجموعها أنّها عادة الحنابلة، وأنّها لديهم من القربات المهمة التي لا يفرطون به
(24). وذكر في كتابه (المنتظم) أنّه قد قصد زيارته في سنة 574هـ وتبعه خلق كثير يقدرون بخمسة آلاف إنسان(25).
وهذه بعض نصوص ابن الجوزي، تعكس صورةً واضحةً عن ثقافة الزيارة عند الحنابلة:

ـ عن أبي الفرج الهندبائي، قال: كنت أزور قبر أحمد بن حنبل، فتركته مدَّةً، فرأيت في المنام قائلاً يقول لي: تركت زيارة إمام السنّة؟!(26).
ـ عن أبي طاهر ميمون، قال: رأيت رجلاً بجامع الرصافة في شهر ربيع الآخرة من سنة ست وستين وأربعمئة، فسألته، فقال: قد جئت من ستمئة فرسخ، فقلت: في أي حاجة؟
قال: رأيت وأنا ببلدي في ليلة جمعة كأنّي في صحراء أو في فضاء عظيم، والخلق قيام، وأبواب السماء فُتحت، وملائكة تنزل من السماء تُلِبسُ أقواماً ثياباً خضراً، وتطير بهم في الهواء، فقلت: من هؤلاء الذين اختصوا بهذا؟
فقالوا لي: هؤلاء الذين يزورون أحمد بن حنبل.. فانتبهت، ولم ألبث أن أصلحت أمري وجئت إلى هذا البلد وزرته دفعات، وأنا عائد إلى بلدي إن شاء الله
(27).
ـ قال ابن الجوزي: وفي صفر سنة 542هـ رأى رجل في المنام قائلاً يقول له: من زار أحمد بن حنبل غُفر له.
قال: فلم يبقَ خاصٌّ ولا عامٌّ إلاّ زاره، وعقدتُ يومئذٍ ثمَّ مجلساً فاجتمع فيه ألوف من الناس
(28).
ـ الله يزور أحمد بن حنبل كل عام!! كما نقل ابن الجوزي عن أبي بكر بن مكارم ابن أبي يعلى الحربي، قال: وكان شيخاً صالحاً، أنّه رأى في منامه أنّه أتى قبر أحمد يزوره على عادته، فرأى القبر قد التصق بالاَرض ولم يبقَ منه إلاّ القليل، فقال: هذا من كثرة الغيث.. فسمع أحمد من القبر يقول له: لا، بل هذا من هيبة الحقّ عزَّ وجلَّ، لاَنّه عزَّ وجلَّ قد زارني، فسألته عن سرِّ زيارته إيّاي في كل عام، فقال عزَّ وجلَّ: يا أحمد، لاَنّك نصرت كلامي، فهو يُنشر ويتلى في المحاريب.
يقول الحربي: فأقبلت على لحده أُقبِّله، ثمَّ قلت: يا سيدي، ما السر في أنّه لا يُقبَّل قبرٌ إلاّ قبرك؟
فقال لي: يا بنيَّ، ليس هذا كرامة لي، ولكن هذا كرامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لاَنّ معي شعرات من شعره.. ثمَّ قال: ألا ومن يحبني لِمَ لا يزورني في شهر رمضان؟
(29).
وليست العبرة في صحَّة هذه الاَخبار أو عدم صحَّتها، إنَّما العبرة في ملاحظة أنّ ثقافة الزيارة عند الحنابلة لا تختلف كثيراً عنها عند الصوفية، إلاّ في ممارسات خارجية قد يصنعها بعض الصوفية دون الحنابلة.. مع ملاحظة أنّ دعاة السلفية من المنتسبين إلى مذهب أحمد بن حنبل حين حاربوا هذا النمط من ثقافة الزيارة قد وجَّهوا حملاتهم على التراث الصوفي خاصةً، وتراث الطوائف الاِسلامية الاَخرى عامة، وغضّوا الطرف كاملاً عمّا تراكم في تراثهم من ذلك.
ولا ريب في أنّ الاَحداث التي دوَّنها ابن الجوزي في (المنتظم) في هذا الموضوع كانت صحيحة، وفيها حدثان كان فيهما شاهداً ومعايشاً، وثمَّة حقيقة أُخرى يثبتها، ويشاركه فيها ابن كثير، قد تفوق كلَّ ما تقدَّم ذكره في ما تعارف عليه الحنابلة في الزيارة.. ففي ترجمة أبي جعفر بن أبي موسى (ت 470هـ) إمام الحنابلة في وقته، وقد دفن عند قبر أحمد، قال ابن الجوزي: كان الناس يبيتون هناك كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، ويخرج المتعيِّشون فيبيعون المأكولات، وصار ذلك فرجةً للناس ـ أي فَرَجاً ـ ولم يزالوا كذلك إلى أن جاء الشتاء فامتنعوا.. وقال ابن كثير: دفن إلى جانب الاِمام أحمد، فاتخذت العامَّة قبره سوقاً كلَّ ليلة أربعاء، يتردَّدون إليه
(30).وكلُّ ما تقدَّم يكشف بوضوح عن عقيدة شيخ الحنابلة في وقته أبي الفرج بن الجوزي في الزيارة، بل في شدِّ الرحال إليها، الذي سيأتي بحثه لاحقاً.. ولنتابع مع آخرين من أقطاب الحنابلة..
2 ـ موفق الدين ابن قدامة المقدسي (620هـ): يصرِّح باستحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويستدلُّ لذلك بما رواه الدارقطني وأحمد من حديث ابن عمر وأبي هريرة
(31).
3 ـ نجم الدين بن حمدان الحنبلي (695هـ): ويسنّ لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبر صاحبيه، وله ذلك بعد فراغ حجه، وإن شاء قبل فراغه
(32).
4 ـ ابن تيمية (728هـ): وابن تيمية الذي أنكر السفر بقصد الزيارة، لم ينكر أصل الزيارة، فأثبتها للحاج وأدخلها في المناسك، فقال في مناسكه: «باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الحج أو بعده... فإذا
دخل المسجد بدأ برجله اليمنى... ثمَّ يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثمَّ يأتي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيستقبل الجدار، ولا يمسّه ولا يقبّله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وِجاه النبي، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون..(33).
ويأتي في الفقرة اللاحقة ما يثبت خطأ ما ذهب إليه ابن تيمية في تجنُّب مسِّ القبر والمنبر.

التبرُّك

زيادة في تقرير صحة الزيارة وكونها قربة، فقد ثبت في الكثير من سير الصحابة والتابعين وكبار السلف أنّهم كانوا يتبرّكون بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقبره ومنبره. والاَثر في هذا كثير، نكتفي منه بالنزر اليسير الشاهد على المطلوب:
1 ـ قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتبرك بمسّه ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى.قال: لا بأس به
(34). ويؤيد ذلك عن أحمد الرواية الآتية:
2 ـ عن الحافظ أبي سعيد بن العلا، وهو معاصر لابن تيمية، قال: رأيت في كلام الاِمام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر
(35) وغيره من الحفّاظ: أنّ الاِمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك.
قال: فأريناه التقيّ ابن تيمية، فصار يتعجب من ذلك، ويقول: عجبت من أحمد، عندي جليل!!
قال ابن العلا: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الاِمام أحمد أنّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به!أخرج هذا ابن الجوزي وابن كثير
(36)، وهما من أشد الناس اتباعاً لاَحمد وتعظيماً له، وان ابن كثير خاصة من أشد الناس متابعة لابن تيمية.
3 ـ وروى ابن حجر العسقلاني عن أحمد أنّه لا يرى بأساً في تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبره
(37).
4 ـ محمد ابن المنكدر، وهو من أعلام التابعين، توفي سنة 130هـ، كان يجلس مع أصحابه في المسجد النبوي الشريف، فكان يقوم ويضع خدّه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنّه ليصيبني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يأتي موضعاً من المسجد في الصحن فيتمرّغ فيه ويضطجع، فقيل له في ذلك، فقال: إنّي رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضع، يعني في النوم.
ذكرهما عنه الذهبي في (سير أعلام النبلاء)
(38) وقد ترجم له ترجمة وافية، وأثنى عليه ثناءً بالغاً، وعدّه، نقلاً عن نقّاد الرجال، من أجدر التابعين من طبقته ممّن يؤخذ منه حتى مراسيله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأرّخ مولده ببضع وثلاثين للهجرة، وهو خال عائشة، وكان خصيصاً بها، وحين توفيت كان هو ابن نيف وعشرين سنة(39).
5 ـ وأمّا التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو أمر شائع، وشواهده يطول ذكرها، نكتفي منها بواحد، عالي الاِسناد، صريح الدلالة: أخرج الذهبي من حديث التابعي الكبير عبيدة السلماني المتوفى سنة 72هـ، وهو من أجلّ التابعين وأفاضل أصحاب الاِمام علي عليه السلام ، ومن أئمة الحديث والقضاء، وكانوا لا يختلفون في أنّه أقضى من شُريح
(40).
قال الذهبي: قيل لعَبِيدة السلماني: إنّ عندنا من شَعْر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من قِبَل أنس بن مالك.
فقال عَبيدة: لاَن يكون عندي منه شعرة أحب إليّ من كل صفراء وبيضاء على ظهر الاَرض.
وعقّب الذهبي قائلاً: هذا القول من عَبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شَعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس، ومثل هذا ما يقوله هذا الاِمام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمسين سنة، فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، او شسع نعل كان له، أو قلامة ظفر، أو شَقَفة من إناء شرب فيه؟
فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك، أكنت تعده مبذّراً أو سفيهاً؟! كلاّ.. فأبذل مالك في زورة مسجده الذي بنى فيه بيده، والسلام عليه عند حجرته في بلده، وتملاَّ بالحلول في روضته ومقعده، فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحبّ إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلّهم. وقبّل حجراً مكرّماً نزل من الجنّة، وضع فمك لاثماً مكاناً قبّله سيد البشر بيقين، فهنّأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر، ولو ظفرنا بالمِحْجَن الذي أشار به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحجر ثمَّ قبّلَ مِحْجَنه، لحَقّ لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل، ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل من تقبيل مِحْجَنه ونعله.
قال: وقد كان ثابت البُناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ بيده فقبلها، ويقول: يدٌ مسّتها يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فنقول نحن إذا فاتنا ذلك: حجر معظّم بمنزلة يمين الله في الاَرض مسّته شفتا نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم لاثماً له.. فإذا فاتك الحج، وتلقيّت الوفد فالتزم الحاج وقبّل فمه، وقل: فمّ مسَّ بالتقبيل حجراً قبّله خليلي صلى الله عليه وآله وسلم
(41).
وفي كلام الذهبي هذا تعريض واضح بابن تيمية وأتباعه، وهو يحث على شدّ الرحال لزيارة قبره، وبذل الاَموال من أجل ذلك، بل من أجل الحصول على شيء من آثاره، ولو شسع نعل كان له.
وخلاصة القول: إنّ التبرك بمسّ قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنبره وآثاره أمر معروف
عند متقدمي السلف، مشهود بينهم، وسائر الفقهاء لا يخالفون في هذا، غير أن بعضهم كان يرى أنّ التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي أن لا يدنو الزائر من قبره كثيراً، بل يقف أمامه على فاصلة، بكل إجلال، كما لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائماً أمامه، وهو رأي لا نكارة فيه لمن يرى هذا من التأدّب، وهو بعد لم يستند إلى أدلّة تجعل منه السنّة الثابتة في الزيارة،إنّ القائلين به أيضاً كانوا يستثنون من غلبته شدّة الشوق، فقبل القبر أو المنبر، أو رمى بنفسه عليهما، ولا ريب أنّ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصنعون معه مثل هذا في حياته في حالات الشوق الشديد الذي لا يمتلك معه المرء نفسه، وقد كان ذلك ممّا يبعث في نفسه الشريفة الارتياح، ويزيده لهم محبّة، وعليهم رحمة وشفقة.
كما اتفقوا أيضاً على أنّ من فعل ذلك لغرض التبرك وحده، فلا بأس به، ولا نكارة عليه.
وإنّما كرهوا أن يكون ذلك تصنّعاً، وأن يتخذه المرء عادةً وسنّةً، دون أن يكون ذلك مصحوباً بشوق حقيقي. وهو المستفاد مما نسب إلى الاِمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام ـ على فرض صحَّة إسناده ـ وقد رأى رجلاً يفعل ذلك مراراً وفي كل يوم، فقال له: «ما يحملك على هذا؟».
قال: أُحبُّ التسليم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له زين العابدين عليه السلام : «هل لك أن أحدّثك عن أبي؟».
قال: نعم.
قال عليه السلام : «حدّثني أبي، عن جدّي، أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تجعلوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليّ وسلّموا حيث ما كنتم،
فسيبلغني سلامكم وصلاتكم»(42).
وأخرج عبدالرزاق في (المصنّف) نحو هذا عن الحسن بن علي عليهما السلام .
وليس في هذا الكلام إنكار لاَصل الزيارة، لاسيما بعد أن ثبت أنّهم يفعلونها، وأنّهم مجمعون على صحّتها وكونها قربة، ولكنه لما رأى الرجل قد جاوز الحد في صنيعه عند القبر، مكرراً ذلك غداة كل يوم كما جاء في صدر الخبر، الاَمر الذي يبعُد معه احتمال كونه يصنع ذلك كلَّه بشوق حقيقي خالٍ من التصنُّع، أنكر عليه ذلك، وأراد تعليمه أنَّ السلام يبلغه ولو من بعد، دون الحاجة إلى هذا القدر من التصنُّع المكرَّر يوماً بعد آخر.
ويشهد لهذا أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام ، منها:
ـ حديث الاِمام الباقر عليه السلام عن أبيه علي بن الحسين نفسه، أنّه كان يقف على قبر النبي ويلتزق بالقبر
(43).
ـ وأنّ الاِمام الصادق عليه السلام كان يأتي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع يده عليه. وسيأتي بكامله مع أحاديث أُخرى مماثلة في (آداب الزيارة).
ـ وحديث الاِمام الصادق عليه السلام : «مرّوا بالمدينة فسلّموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريب، وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد»
(44).
ـ وقوله عليه السلام : «صلّوا إلى جانب قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت صلاة المؤمنين
تبلغه أينما كانوا»(45). وسيأتي في (آداب الزيارة) أن الاَئمة عليهم السلام وسائر أهل العلم كانوا يعلِّمون الناس سنناً وآداباً خاصةً في الزيارة، ليتمسّك بها الناس، فلا يتجاوزونها.
وشأن الزيارة في ذلك شأن سائر العبادات والقربات المحفوفة بالسنن والآداب.


(1) الغدير| الاَميني 5 : 233 ـ 234 ـ تحقيق مركز الغدير ـ عن (وفاء الوفاء) للسمهودي 4 : 1410.

(2) السيرة النبوية| ابن سيد الناس 2 : 432، السيرة النبوية| زيني دحلان 2 : 310، إرشاد الساري| القسطلاني 3 : 352، أعلام النساء| عمر رضا كحّالة 4 : 113.
(
3) وفاء الوفا| السمهودي 4 : 1399، المواهب اللدنية| القسطلاني 4 : 583.

(4) الرياض النضرة 2 : 330.
(
5) اُسد الغابة 1 : 307 ـ 308، ترجمة بلال بن رباح، وأخرجه ابن عساكر في ترجمة بلال أيضاً، وفي ترجمة إبراهيم بن محمد الاَنصاري، انظر: مختصر تاريخ دمشق 4 : 118 و 5 : 265، وتهذيب الكمال 4 : 289|782.

(6) شفاء السقام :54 (الباب الثالث).

(7) أي متقدم.
(
8) اسد الغابة (ترجمة خباب) 2 : 143، العقد الفريد 3 : 12.
(
9) المستدرك 1 : 532|1392.

(10) العقد الفريد 3:13، الغدير 5 : 25|9.
(11) المستدرك على الصحيحين 4 : 560|8571، وتلخيص الذهبي في ذيل الصفحة.

(12) شفاء السقام :55.

(13) تهذيب الاَحكام 6 : 22|7.
(
14) تاريخ بغداد 1 : 123، مناقب أبي حنيفة| الخوارزمي 2 : 199.
(
15) تاريخ بغداد| الخطيب البغدادي 1 : 120.

(16) تهذيب التهذيب| ابن حجر العسقلاني 7 : 339.
(
17) سنن الترمذي 3 : 370|1054 (كتاب الجنائز ـ باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور).

(18) سير أعلام النبلاء 8 : 378 ـ 421.
(
19) سير أعلام النبلاء 11 : 358 ـ 383.

(20) شفاء السقام :70 ـ 71.

(21) شفاء السقام: 71.
(
22) رأس الحسين| ابن تيمية: 209 مطبوع مع استشهاد الحسين للطبري.

(23) شفاء السقام: 62 ـ 63، مختصر تاريخ دمشق 2 : 408، القسطلانيو المواهب اللدنية 4 : 583.
(
24) مناقب أحمد: 400، 563، 639، 642، 643، 677 وغيرها.
(
25) المنتظم في أخبار الملوك والاَمم 18 : 248.

(26) مناقب أحمد :6390، وأخرجه الخطيب البغدادي| تاريخ بغداد 4 : 423.
(
27) مناقب أحمد :639.
(
28) المنتظم 18 : 55.

(29) مناقب أحمد :607.

(30) المنتظم، والبداية والنهاية: أحداث سنة 470هـ.
(
31) المغني| ابن قدامة 3 : 788.
(
32) نقله السبكي في شفاء السقام: 67 عن (الرعاية الكبرى في الفروع الحنبلية).

(33) ذكره ابن عبدالهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي: 7 المطبعة الخيرية، القاهرة. ط1، بواسطة الزيارة في الكتاب والسنّة| جعفر سبحاني :28 ـ 29.
(
34) أخرجه العز بن جماعة، كما في| وفاء الوفا 2 : 424.

(35) مناقب أحمد| ابن الجوزي: 609، البداية والنهاية| ابن كثير: 10 : 365 حوادث سنة 241هـ.
(
36) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3 : 475|1609.
(
37) أبو الفضل، محمد بن ناصر السلامي البغدادي، من أئمة الحنابلة في القرن السادس، وعنه أخذ أبو الفرج ابن الجوزي علم الحديث وعليه قرأ المسانيد، وكان مقدّم أصحاب الحديث في وقته ببغداد. ولد سنة 467 وتوفي سنة 550هـ. سير أعلام النبلاء: 20 : 265 ـ 270.

(38) سير أعلام النبلاء| الذهبي 5 : 358 ـ 359.
(
39) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 5 : 353 ـ 361.
(
40) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4 : 40 ـ 44.

(41) سير أعلام النبلاء 4 : 42.

(42) أخرجه السبكي عن القاضي إسماعيل في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم )، شفاء السقام:79.
(
43) الكافي 4 : 551|2.
(
44) الكافي 4 : 552|5 ـ كتاب الحج ـ باب دخول المدينة وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

(45) الكافية 4 : 553 | 7 تهذيب الأحكام 6 : 7 | 4.

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى