دفاعاً عن الاحتفال بذكرى الائمة الطاهرين

  قال تعالى: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (الأعراف: 176) وقال جل من قائل: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (يوسف: 111) ومع هذا يحرمون أن تقص قصة مولد الرحمة التي أرسلها الله تعالى للعالمين، وأن تقص قصة بيعة الغدير التي أكمل الله بها للمؤمنين دينهم وأتم عليهم نعمته، وأن تقص قصة خروج السبط ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح أمة جده، إنهم يحرمون أن تقص هذه القصص وما شاكلها وأن يحتفى بالأشخاص العظماء الذين تدور القصص على أفعالهم السامية، ويبدعون من يفعل ذلك وقد يرمونه بالشرك، أعني أنهم يحكمون بهذا على من يفعل ما ذكرنا – في يوم مخصوص، وإننا سنقف ملياً حتى نفند هذا الحكم الذي لم يعبأ به معظم علماء المسلمين ولم يجيزوه، لكننا سوف نحتفي(!)

لقد قرأ بعض المسلمين قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أصدق الحديث كتاب الله وأن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور مُحدثاتها وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) فذهبوا إلى أن كل ما حدث بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من اختراع هو بدعة ينبغي اجتنابها ولهذا رأينا من يحرم استخدام الكهرباء في إضاءة بعض الأماكن المشرفة ويمنع استخدام أجهزة إرسال البرقيات بل في يومنا هذا، في القرن الحادي والعشرين، تبادر جماعات من أهل هذا النظر إلى حشد الآلاف من المسلمين من أجل إعادة الإسلام إلى أصوله – فهل دريت ما أصوله؟ إن من أصوله على زعمهم نبذ تقنيات هذا العصر، نعم، أنهم يتجنبون الكلام في المايكرفون بدعوى أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما كان يستخدمه فهم لا يستخدمونه حتى في الدعوة إلى سبيل الله فهل البدعة هي هذا حقاً؟

إن البدعة لغةً مأخوذة من بَدَع الشيء أي أنشأه على غير مثال سابق(1)، ورجوعاً إلى هذا المعنى فعل الذين ذكرناهم آنفاً ما فعلوه حذراً من البدعة، لكن البدعة الشرعية غير هذا، وإنما هي، على ما بينه الإمام المجدد السيد محسن الأمين (إدخال ما ليس من الدين في الدين)(2) رجوعاً إلى ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) فها هنا أمر أضافه (صلى الله عليه وآله) إلى نفسه ورد جميع ما يحدث وينسب إليه، وأمره هو الأحكام التي بينها للمسلمين من تحريم وتحليل وإباحة... فالذي يدخل في باب أهل البدع هو الذي يفعل أمراً ويقول إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوجبه أو أحله ويكون الحق خلافه، والذي يترك أمراً ويقول إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عنه أو حرمه، وهو ليس كما قال، إذاً، المخالفة لحكم الدين، لحكم الله ورسوله ثم الزعم بأن الفعل المخالف هو من الدين يدخلان صاحبهما في البدعة، والمدار على الزعم والعنوان لأن (البدعة لا تكون بدعة إلا إذا فعلت بعنوان أنها من الدين)(3) على ما نص عليه السيد الأمين، وقد يستهين بعض الناس في شأن عنوان العمل والحال إن شأنه عظيم، ويتضح لنا ذلك من قول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) و(أدنى ما يكون به العبد كافراً من زعم أن شيئاً نهى الله عنه أن الله أمر به ونصبه ديناً يتولى عليه ويزعم أنه يعبد الله الذي أمره به وإنما يعبد الشيطان)(4) فمن يعمل بخلاف أمر الله هو عاصٍ، أما من يستحله ويقول (أنظر إلى شأن القول والحكم) أنه من أمر الله وينصبه ديناً فهو كافر.

 

وبعد أن عرفنا معنى البدعة الشرعية فها هنا ضابطة تميزها فقد روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: (ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة)(5) وورد بمعناه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهذا يفيد بأن السنة والبدعة متضادتان ولا تجتمعان فإذا رأينا أمراً من الأمور الحادثة صار سبباً لضياع سنة من السنن وتركها علمنا أنه بدعة فإن لم يضر بالسنّة شيئاً كان غير بدعة، ومثال هذا نقول هذا كوب ملآن بالماء لا يلج جسم صلب إلا طفح الماء من حافته، فإذا ولجه شيء (وليكن ضوءاً) ولم يطفح الماء من حافته علمنا أن ذلك الشيء ليس جسماً صلباً، إذاً حتى نقطع على أمر من الأمور أنه بدعة ينبغي العلم على وجه اليقين بأنه سبب ترك السنة، ولا يكفي أن يكون ترك السنة مقارناً لذلك الأمر، فما أكثر الأمور التي تتقارن وليس بينها رابطة عليه، ويتبين لنا هذا من الرجوع إلى المثال المضروب إذا تحركت المنضدة التي عليها كوب الماء لحظة ولوج الضوء في الكوب فإن الماء سوف يطفح منه، فهل نقول أن ولوج الضوء هو السبب في طفح الماء لأن الأمرين تقارناً، أم نرجع الأمر إلى علته الحقيقية؟!

(البراءة من البدعة)

وإذا أتضح معنى البدعة وتميزت ضابطتها فقد برئت ساحة الاحتفاء بذكرى المناسبات العظيمة من مثل مولد النبي (صلى الله عليه وآله) وعيد غدير خم وثورة كربلاء وما شاكلها، فنحن لو فتشنا عن السنن التي تركت بفعل تلك الاحتفالات لوجدنا الأمر بخلاف ما يتوقعه المبدعون، إن الواقع يشهد، وقد أوردنا في الأسطر المتقدمة بنداً من شهادته، إن هذه الاحتفالات إنما تحيي السنن وتعزز كيان العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين، فهل من البدعة قص القصص عن سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته أم من السنة؟! وهل من البدعة الصلاة عليهم والتنويه بذكرهم أم من السنة؟ وهل من البدعة أن يتوجه إلى المحتفلين، وقد لانت قلوبهم وسخت نفوسهم، وأن يرغبوا في فعل ما يرضي الله ورسوله وما ينفعهم في آخرتهم وديناهم، أم من السنة؟! أم هل في فعل ما ذكرنا ترك فريضة أو سنة أو مندوب... حتى يكون من البدعة؟!

هذا من حيث ضابطة البدعة، أما من حيث تعريفها فإن إحياء المواسم المشار إليها أبعد ما تكون عن انضوائها تحت تعريف البدعة، فلو كان في الشرع الشريف نهي عن فعلها لكان فعلها إدخالاً في الدين ما ليس منه من باب المخالفة، وإذا لم يكن نهي عنها فهي من المباح إن لم تكن من المستحب أما كونها  من المباح إذ لا نهي فيها، فقد ورد في ذلك عن الصادق (عليه السلام): (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص)، وقد عمل بهذا الحكم من العلماء السيد الشيرازي بقوله: كل شيء لم يكن نص على تحريمه فهو جائز شرعاً) (6)، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر بقوله: (والإسلام إن كان يشتمل على نص يمنع من سلوك معين سلبي أو إيجابي فهذا سلوك حرام، وإلا فهو حلال)(7) وغيرهما من العلماء الأعلام، وأما كونها من المستحب فيستفاد من كونها مصاديق لعناوين شرعية عامة ورد الحث عليها، من مثل قول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أحيوا أمرنا وما أجمع عليه المسلمون من تعظيم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(مطاعن لا يعتد بها)

وبعد هذا فلا يلتفت إلى ما طعن به في هذه الاحتفالات من شوبها أحياناً بالمحرمات، ومن أن تجر الناس إلى توهم فرضها، ومن أنها عبادة لصاحب الذكرى، ومن أنها تشبه بغير المسلمين، أما كونهما مشوبة أحياناً بالمحرمات فيكفي لدفع الطعن تخليص الاحتفال من المحرم لا إبطال فعل الاحتفال، لقد كان حج أهل الجاهلية حافلاً بالمنكرات لكن المشرع المقدس لم يبطل الحج وإنما طهره من المنكرات، وأما القول بأنها عبادة لصاحب الذكرى فمردود أيضاً، فلو كان التعظيم كله عبادة فماذا نقول في تعظيم الملائكة والسجود لآدم، بل ماذا نقول في تعظيم الأبناء لآبائهم؟ وإن الزعم بأن الاحتفاء بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) فيه تشبه للمسلمين بالنصارى فساقط بالنظر إلى أن مطلق ما يفعله غير المسلمين لو كان محرماً فماذا نقول عن الصلاة والحج وغير ذلك من أفعال العبادة التي يؤديها أهل الأديان جميعاً، وبالنظر إلى أن الاحتفاء بالعظماء هو من سجايا النفس الإنسانية التي فطرت عليها ولا ضير لو فعل ذلك المسلمون وغير المسلمين.

وبمناسبة الكلام على مشروعية المواسم الدينية نحب أن ندفع التباساً وقع في أمر عاشوراء، لقد سن الحجاج اتخاذ الزينة وإقامة الولائم والضيافات يوم عاشوراء شماتة بمصاب أهل البيت (عليهم السلام) وتبركاً بهذا اليوم، ثم جاء من أهل الحديث من فتش عن سند شرعي لهذا العيد بعدما نشا في كثير من الناس ودرجت عليه عادتهم، فوقعوا على ما نقله السيوطي عن ابن حجر من قوله: (ثبت في الصحيحين.. أن النبي (صلى الله عليه وآله) قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا، هذا يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، ونحن نصومه شكراً لله تعالى، فقال (صلى الله عليه وآله) (فأنا أحق بموسى عليه السلام منكم، فصامه، وأمر بصيامه...)(8)، واستناداً إلى هذا الحديث ظن الكثير من المسلمين أن العاشر من المحرم هو عاشوراء الذي كانت تصومه اليهود اليوم وصادف قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة، وهذا خطأ، فعاشوراء عيد اليهود هو العاشر من شهر تشري العبري وليس العاشر من محرم، إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يقدم المدينة في محرم وإنما قدمها في ربيع الأول الذي وافق في عام الهجرة الأول أواخر شهر أيلول السرياني وشهر تشري العبري وفيه يصوم اليهود اليوم العاشر منه وهو يوم كيبور يوم الغفران، وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد صام ذلك اليوم في ذلك العام فالظاهر أنه تركه ولم يثابر على صيامه إذ لم يرد ذلك من طريق أهل البيت (عليهم السلام) معدن العلم وورثة الحكمة، وإذن فعاشوراء الذي صامه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس بالعاشر من محرم على ما وهم فيه بعضهم، بل العاشر من الشهر العبري، وفعله هذا كفعله إذا استقبل بيت المقدس في الصلاة ثم نسخه.

(بين الدم والدمعة)

ومهما يكن من أمر الشغب الذي أثير على الاحتفال بالذكريات الشريفة فإن مما يؤسف له الوقت والجهد اللذين أضيعا لدفع أذاه، لكن أكثر مما يحز في النفس أن تكون هذه الذكريات هي التي تثير المرارة بين المسلمين بدلاً من أن تعطف قلوبهم بعضها على بعض، إن الحرج الذي أوقع فيه أنفسهم أهل المنع من الاحتفاء برسول الله وأهل بيته (عليهم السلام) قد جرهم إلى أن يرموا المسلمين بالبدعة والشرك والكفر، فضاقت الآفاق على فئات منهم وغامت، فراحوا يسفكون الدماء المعصومة، فأنظر أيها القارئ الكريم إلى الحرج وما يهرق من دماء، أنظر إلى رحابة الصدر الذي يخفق فيه القلب الرقيق وما يذرفه من دموع أسفاً على المصاب وفرحاً بالبشرى.

 1- المعجم الوسيط إصدار مجمع اللغة العربية القاهرة ط2.

2- محسن الأمين كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب، مطبعة ابن زيدون، دمشق ص1 سنة 1327 98.

3- نفس المرجع ص 99.

4- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي دار الكتب الإسلامية طهران إيران، 1368هـ ج2 ص415.

5- الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) نهج البلاغة صبحي الصالح، مكتبة المدرسة بيروت لبنان ط2 1982م الخطبة 145.

6- الإمام محمد الحسيني الشيرازي فقه العولمة، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت لبنان، ط1، سنة 2002م ص227.

7- محمد باقر الصدر (اقتصادنا) دار التعارف بيروت لبنان، ط16، سنة 1982 ص383

8- جعفر مرتضى العاملي، المواسم والمراسم، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران إيران، ط1 سنة 1987م، ص33.

بقلم: وفيق فايق كريشات

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى