الإمام الحسن (عليه السلام) شبهات وردود

الشيخ محمّد العبيدان القطيفي

بسم الله الرحمن الرحيم

تعتبر شخصيات أهل البيت(ع) من الشخصيات الإسلامية التي كانت ذاتجوانب تميزها عن غيرها من بقية الشخصيات الإسلامية، مما دعى أن تكون في مقام الإقتداء والإتباع من قبل الأمة.
وقد كان لهم(ع)أعداء ومناوئون، يحاولون النيل منهم بشتى الوسائل، ويسعون إلى تحطيم وجودهم الاجتماعي والقيادي،  والحط من مقاماتهم، وتوهينهم عند عامة الناس، فلجأوا إلى استخدام أساليب مختلفة، وبأنحاء متعددة، لتحقيق تلك الأغراض، والحصول على الأهداف والغايات المنشودة.
ومن ضمن شخصيات أهل البيت(ع)التي كانت عرضة لمثل هذه الأمور شخصية الإمام الحسن المجتبى(ع)، فقد حاول الأمويون النيل من وجوده المبارك بشتى الوسائل، من أجل إضعافه، ومحاولة توهينه، وتحقيره بين الناس، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك.
بل الظاهر أن السبب الرئيس الذي دعى معاوية إلى القيام بمحاولات الاغتيال المتعددة له، حتى نجح في آخره، من خلال دس السم القتال له، هو عدم تمكنه من الوقوف أمام مركزية شخصيته العظيمة، وقوة وجوده الاجتماعي، فلجأ لذلك.
ولما لم يتمكنوا من الوقوف أمام تصاعد وجوده المبارك في أوساط الناس، عمدوا إلى اختلاق الأكاذيب، ووضع الأحاديث ضده، كمحاولة إعلامية لتشويه صورته، فكانت هذه الحملة الإعلامية الشرسة ضده(ع).
وقد كانت غايته، بيان أنه(ع)شخصية عادية، لا علاقة له بالله سبحانه وتعالى، ونفي العصمة عنه، مما يعني أنه لا تمييز له على غيره.
كما عمدت إلى إعطاء الشرعية، وإضفاء صبغة التدين والإسلام على أعدائه كمعاوية.
من هن، أحببت أن أتناول بعض الأطروحات التي وردت في التأريخ، وقد وضعت من أجل النيل من قدس شخص الإمام المجتبى(ع)وبيان أنها من موضوعات الأمويـين، لأجل الحط من تلك الشخصية المقدسة.

مقدمة
هذا ولا بأس بأن نبدأ بذكر مقدمة تنطوي على الحديث شيئاً ما حولالوضع، وما صاحب ذلك من أمور، فنقول:
لقد وجد في التاريخ بعض المرتزقة، ووعاض السلاطين الذين كان همهم الأول هو وضع الأحاديث التي تتماشى مع أهواء حكام عصرهم، طلباًلرضاهم، وكسباً لدراهمهم ودنانيرهم.
فمن تلك الروايات، أنه دخل رجل على أحد خلفاء بني العباس، وكان يعجبه الحمام الطيارة التي تأتي من الأماكن البعيدة، فروى له حديثاً عن النبي(ص)أنه قال:لا سبق إلا في خف، أو حافر ، أو نصلأوجناح، فأمر له الخليفة بعشرة آلاف درهم، فلما خرج قال الخليفة:أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله(ص)، وما قال رسول الله(ص)جناح، ولكن هو أراد أن يتقرب إلينا وأمر بذبحه، وقال:أنا حملته على ذلك[1].
ولذا وجد في التاريخ من كذب على رسولالله(ص)، وعلىالأئمةالطاهرين(ع)، وقد ذكر الرسول الأكرم(ص)أن ستكثر عليه الكذابة من بعده، كما ذكر الأئمة(ع)وجود كذابين عليهم، وعلى جدهم رسول الله(ص).
فعن أمير المؤمنين(ع)أنه قال:وقد كذب على عهد رسول الله في عهده حتى قام خطيب، وقال أيها الناس، قد كثرت علينا الكذابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار[2].
وهي دالة على حصول الكذب بصورة واسعة في زمانه(ص)لوجود مجموعة من المنافقين الذين يهمهم تشويه صورة الإسلام، وإظهاره الرسول(ص)بصورة غير لائقة.
ومثل ذلك جرى بالنسبة للأئمة الطاهرين(ع)كما نصت على ذلك العديد من الروايات، وعلى هذا لا يمكننا الحكم بصحة رواية، وإن وردت عنهم لمجرد كونها صحيحة السند، وذلك لوجود الوضاعين، والكذابين عليهم(ع)، خصوصاً وأن من يريد أن يضع حديثاً ليثبت ما يريد إثباته، لابد وأن يضع سنداً صحيحاً يمكنه من تحقيق غرضه، مما يؤدي إلى قبول الخبر الذي وضعه.
وعلى أي حال، فقد صنفوا الوضاعين إلى أصناف، فمنهم من كان يقصد بوضع الحديث التقرب للملوك، وأبناء الدني، ومنهم من كان يضع الحديث لغاية الاسترزاق من وضعه، ومنهم من كان من الزهاد العباد، فكان يضع الحديث قربة لله تعالى، لجذب الناس ناحية الدين وترهيبهم، وترغيبهم، ومنهم من وضع الحديث من أجل أن يفسد الإسلام، ويشوه صورة قادته، ويحط من شخصياتهم المباركة.

معرفات الوضع
هذا وقد ذكرت عدة شواهد تصلح قاعدة كلية يعتمد عليه، من أجل معرفة أن هذا الحديث من الموضوعات، أم من الأحاديث الصادرة عن أهل البيت(ع)، نشير لبعض منها:
1-أن يكون الحديث متضمناً إخباراً عن أمر جسيم، تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله منهم إلا شخص واحد، ومن النماذج على ذلك الرواية التي نقلها أبو بكر عن النبي(ص):نحن الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.
2-أن يكون الخبر المنقول منافياً للعقل، بحيث لا يصدقه، كما أنه لا يقبل التأويل.
3-أن يكون مخالفاً لدلالة الكتاب القطعية، أو السنة المتواترة.
هذا وقد كثر الوضع في زمن معاوية بن أبي سفيان، وشجع هو على ذلك، من أجل الحفاظ على كرسي ملكه، ومنافعه الدنيوية.
قال ابن أبي الحديد:إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي(ع)تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين:عمرو بن الزبير[3].
ويكفينا شاهداً على صحة كلام ابن أبي الحديد الحديث الذي يروى أنه(ص)قال:الأمناء عند الله ثلاثة:أنا وجبرائيل ومعاوية.
وبالجملة فقد بذل معاوية الأموال الطائلة من أجل أن يصد الناس عن آل محمد(ص).
ولم يكتفِ معاوية بوضع الأحاديث ضد علي(ع)لأنه وجد أن ذلك لا يجدي نفع، فلجأ لوضع الأحاديث ضد من ينتسبون له، فوضع حديث الضحضاح في مولانا أبي طالب(ع).

ظلامة الحسن المجتبى
ثم تعد الأمر حتى وصل إلى أولاده(ع)، فقام بوضع مجموعة من الأحاديث المكذوبة حول الإمام الحسن المجتبى، في محاولة منه لتشويه صورة علي(ع)في ولده، مضافاً لما ذكرناه في مطلع البحث للوقوف أمام تيار بني هاشم الاجتماعي المتزايد.
فمثلاً عرف الإمام الحسن السبط(ع)بالكرم، والجود بصورة جعلته يتميز بذلك على جميع من ذكر التاريخ بذلهم وكرمهم، بشكل ملفت للنظر، فاستدعى ذلك من معاوية الوقوف أمام هذه الصفة، وبيان أن هناك من هو أكرم من الإمام الزكي، فاختلقت قضية دست في كتب التاريخ، حتى صارت من المسلمات التاريخية، لتوضح أن الإمام الزكي ليس كما يتصور السامع لما يذكر عنه، بل هو شخصية عادية، هناك من هو أكثر بذلاَ منه، وتلك القصة هي:
خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشو، فرأوا عجوزاً في خباء فاستسقوه، فقالت:هذه الشويهة احلبوها وامتذقوا لبنه، ففعلو، واستطعموه، فقالت:ليس إلا هذه الشاة، فليذبحها أحدكم، فذبحها أحدهم وكشطه، ثم شوت لهم من لحمها فأكلو، وقالوا عنده، فلما نهضوا قالوا:نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا عدنا فألمي بن، فإنا صانعون بك خير، ثم رحلو، فما جاء زوجها أخبرته، فقال:ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ثم تقولين:نفر من قريش، ثم مضت الأيام فأضرت بها الحال، فرحلت حتى اجتازت بالمدينة فرآها الحسن(ع)فعرفه، قال لها:أتعرفيني؟…قالت:ل، قال:أنا ضيفك يوم كذا وكذ، فأمر لها بألف شاة ، وألف دينار، وبعث معها رسولاً إلى الحسين فأعطاها ضعف ما أعطاها الحسن(ع)، ثم بعث بها إلى عبد الله بن جعفر فأعطاها ضعف ما أعطاها الحسنان.
وأنت كما تلاحظ عزيزي القارئ أن هذه القصة تثبت أن عبد الله بن جعفر أكثر كرماً من الإمام الحسن الزكي(ع)، مما يعني أن ما ينسب إليه من كثرة جود وكرم في غير محله، ولا أقل من أن هناك من هو أكثر كرماً منه، فلا معنى لما يثار حوله.
نعم هناك نقل آخر لنفس القصة، يتضمن أن عبد الله بن جعفر(رض)والإمام الحسين(ع)قد أعطياها كما أعطاها الإمام الحسن(ع)، وهذا المعنى مقبول إجمالاً لكونهما قد اقتديا بالإمام الحسن(ع)في العطاء.
ثم إن هذا الذي قلناه لا يعني أن الحسين(ع)وعبد الله بن جعفر(رض)لما يكونا كريمين، بل التاريخ يشهد على كثرة بذلهم، لكن هذه القضية التي سبق نقلها تهدف لشيء كما أشرن، وهو الداعي للتأمل فيها.

قضيتان موضوعتان
هذا ولنشر لقضيتين أخذتا بعداً رئيسياً في سيرة الإمام الحسن(ع)بحيث أن أغلب من تعرض لسيرته العطرة تعرض لهم، كما أنهما صارتا محطاً للبحث.

وهاتان القضيتان هما
1-كثرة زواج الإمام الحسن(ع)وكونه مطلاق، كما ورد على لسان أبيه أمير المؤمنين(ع).
2-أن صلحه مع معاوية كان مستنداً إلى ما جاء عن النبي(ص)من أنه سيد يصلح به بين فئتين من المسلمين.

كثرة الزواج
أختلف العلماء في هذه القضية على قولين، فبين مثبت له، وبين نافٍ، وقد استدل كل من الطرفين بأدلة تثبت مدعاه.
لكن الصحيح أن هذه القضية وما جاء فيها من النصوص من الموضوعات التي يحصلها المتتبع في أحوال تلك الروايات، وينظر في أسناده، وتفصيل ذلك:
لقد وردت روايات تشير إلى عدد زوجاته(ع)، وهي مختلفة فيما بينه، فبعضها يذكر أن زوجاته:
1-سبعون امرأة.
2-تسعون.
3-مائتان وخمسون.
4-ثلثمائة.
أما الرواية الأولى:فراويها هو علي بن عبد الله البصري المعروف بالمدائني، وهو من الضعفاء الذين لا يعول على أحاديثهم، حتى امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحه، وضعفه ابن عدي في الكامل.
وعرف بأنه عثماني العقيدة، يضع الأخبار لبني أمية[4].ولهذا كان يشيد بالأمويين ويبالغ في تمجيدهم.
وأما الرواية الثانية، فهي مرسلة لا يعول عليه، وقد انفرد برواياتها الشبلنجي في نور الأبصار[5].
وأما الروايتان الثالثة والرابعة، فقد نقلهما المجلسي في البحار وابن شهراشوب في المناقب، ومصدرهما هو كتاب قوت القلوب.
ومؤلف كتاب قوت القلوب لا يعول عليه، فقد كان يبيح الاستماع للغناء، وكان مصاباً بالهستيري، ولما قدم بغداد ورأى البغداديون ما في حديثه من هذيان تركوه.
وعلى أي حال فهذه الروايات من الروايات الموضوعة عليه(ع)، سواء في زمن بني أمية، وفي زمان خصمه معاوية طلباً لشيء يشينه(ع)فافتعل هذه القضية.
ومن الممكن أنها صادرة من بني العباس لكثرة ثورات الحسنيين في وقت المنصور بالذات، فأراد إضعافهم أمام الرأي العام بشين الحسن الزكي(ع).
هذا ويمكننا التأمل في نفس هذه الروايات بغير ما ذكرنا:
1-إن هذه النصوص تتضمن أن علياً(ع)صعد المنبر وقال لا تزوجوا ولدي الحسن فإنه مطلاق.
وهنا نقول إن هاهنا احتمالين:
الأول:أن يكون علي(ع)قد نهى ولده عن هذا العمل، لكن الحسن لم يستجب لأبيه، مما اضطر الإمام(ع) إلى نهي الناس عن ذلك.
وهذا مرفوض، لكونه يتنافى مع مقام العصمة الموجود عند الإمام الحسن الزكي(ع)، بأن يكون عاصياً لأبيه وهو إمام زمانه المفروض عليه طاعته.
الثاني:أن يكون النهي قد صدر عن أمير المؤمنين ابتداء دون أن ينذر ولده بمغوضيته لذلك، وكراهته له.
وهذا بعيد جداً لأنه كان من الأولى أن يقوم(ع)بإنذار ولده أولاً وإبلاغه بذلك قبل أن يقوم بالتشهير به بين الناس.
2-عدم نص المؤرخين والمترجمين لحياة الإمام الحسن(ع)على كثرة ذريته، وأولاده، فمن كان مزواجاً بهذا المقدار، لا أقل يكون له من الولد عدد غير قليل.
3-لقد كان خصوم الإمام الحسن(ع)يبحثون عما يشينه، ويحط من قدره، وقد جرت بينه وبينهم مناظرات عديدة وفي أماكن مختلفة، فلم نرهم يشينوه بهذا الأمر.
والحاصل إن هذه الأمور مع ما سبق وذكرناه في الملاحظة السندية، تشرف القارئ على الإطمينان بأن هذه الروايات من الموضوعات خصوصاً مع ملاحظة كيفية التعرف على أن الحديث موضوع فيما قدمناه.

حديث الطائفتين
فذكروا أن صلحه(ع) قد استند إلى قول جده(ص):إن ابني سيد عسى الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين.
هذا ويكاد تنحصر رواية هذا الخبر في شخص أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة شقيق زياد بن أبيه من أمه سمية.
نعم وردت روايتها عن غيره، لكن بنحو مرسل، كما أنها مختلفة في الألفاظ.
لكننا لا نقبل هذا الخبر ونقول أنه من الموضوعات أيضاً لأسباب:
1-إن أبا بكرة كان شخصية منحرفة عن خط أهل البيت(ع)، كما أنه لم يرو شيئاً من فضائلهم(ع).
2-إن هذا الخبر ينافي العديد من النصوص قطعية الصدور الدالة على كفر محارب علي(ع).
وهذا يعيننا على الإطمينان بالوضع، لكون الغاية من وضع الخبر محاولة إضفاء الإسلام على معاوية ومن كان معه.
3-إن المتابع لهذه الرواية المنقولة عن أبي بكرة يجده ينص على أنه سمعها من النبي في مواضع متعددة، والعجب أن لا يريها إلا هو، فهل يا ترى لم يسمعها أحد غيره، خصوصاً وأن بعض تلك المواقف في المسجد، أو في أثناء الصلاة، وهذا يؤكد الوضع لما ذكرناه في كيفية معرفة الخبر الموضوع فيما تقدم.
والحاصل إن هاتين القضيتين من القضايا المفتعلة في حق أبي محمد الزكي(ع)وكانت الغاية منها النيل من شخصه المبارك إرضاء لأهواء السلطة وتنفيذاً لرغباتها.
السلام عليك يا أبا محمد الحسن الزكي، يا سيدنا ومولانا إن توجهنا واستشفعنا بك إلى الله وقدمناك بين يدي حاجاتن، يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله.


[1] الموضوعات لأبن الجوزي ج 1 ص 42.
[2] جامع أحاديث الشيعة –المقدمة-.
[3] شرج نهج البلاغة ج 4 ص 63.
[4] لسان الميزان ج 4 ص 386.
[5] نور الأبصار ص 111.

صلح الامام الحسن عليه السلام بنود اللاعنف والسلام

حيدر الجراح

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة
من موقف الأقوياء والمقتدرين، كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، ولم تكن مسيرة رسول الله (ص) إلى مكة في تلك السنة لغرض الحرب واعمال السيف في رقاب المشركين، بقدر ما كانت دعوة إلهية لباها رسول الله لضيافة ربه في البيت المعمور.. ولكنه آثر الرجوع إلى المدينة بعد أن عقد صلحه المشهور مع مشركي مكة، حقناً لدماء أصحابه ودماء قومه، ويعود بأصحابه إلى حيث خرج، ولتكون حجة بالغة عليهم، لتأتي ثمارها في فتح مكة الميمون دون إراقة دماء.
ذلك النصر الباهر، الذي أحرق حشاشة المشركين في ذلك الوقت، وانكفأ إلى داخل النفوس يستعر حقداً وحسداً على تلك الانتصارات التي حققها هذا الدين. تلك الاحقاد أخذت سباتها الطويل نسبياً في نسيج شريحة كبيرة من المجتمع الإسلامي آنذاك، لتخرج إلى العلن مرة أخرى برداء إسلامي في حادثة التحكيم الشهيرة في موقعة صفين التي أدار رحى حربها أمير المؤمنين (ع).
المجتمع الإسلامي هو نفسه، وان طاله تغيير طفيف، مشركو مكة والمنافقون في صلح الحديبية، ومسلمو صفين، الاسم دون المعنى، في غالبيتهم، وقلّة آثرت خط الإمام الرافض لمهزلة التحكيم.
وظهرت تداعيات هذا التحكيم، وانقسم جيش الكوفة إلى صفين: صف يدعو إلى القتال ونقض العهود التي دافعوا عن ابرامها، بعد أن يعلن الإمام عن توبته لأنه كفر على حد زعمهم، وصف يدعو للسلم والرجوع إلى الكوفة وكان ما كان من فتنة الخوارج، وإبادة عديدهم دون فكرهم في معركة النهروان.
وتتأكد اكثر تداعيات هذا التحكيم حين تثاقل أهل الكوفة وتخاذلوا عن تلبية نداء الإمام دفاعاً عن مواقعهم التي يغير عليها جند معاوية ويستبيح المال والبشر.
يقول (ع) مخاطباً جيشه:
(احمد الله على ما قضى من امر، وقدّر من فعل، أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب، إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجئتم إلى مشاقة نكصتم، لا أبا لغيركم، ما تنتظرون بنصركم والجهاد على حقكم.. الموت أو الذل لكم، فوالله لئن جاء يومي وليأتيني ليفرقن بيني وبينكم، وأنا لصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثير..
لله أنتم: أما دين يجمعكم، ولا حمية تشحذكم، أو ليس عجباً، أن معاوية يدعو الجفاة الطغام، فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم، وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس، الى المعونة او طائفة من العطاء فتتفرقون عني وتختلفون عليّ)(1).
 

التركة الثقيلة
بعد مقتل أمير المؤمنين (ع) ومبايعة الإمام الحسن (ع) بالخلافة، ورث تلك التركة الثقيلة المتمثلة بهذا الخليط العجيب - من المقاتلة - الذي تجمعت فيه عدة اتجاهات متعاكسة وعناصر متضادة يمكن تصنيفها إلى فئات:
1) الخوارج: وهم الخارجون على طاعة الإمام علي (ع) والذين حاربوه وناوئوه ونصبوا له العداوة، وقد وجدوا في الإمام الحسن (ع) حلاً وسطاً لمحاربة معاوية، وهذه الفئة تستثيرها أدنى شهبة عارضة فتتعجل الحكم عليها.
2) الفئة الممالئة للحكم الأموي، وهي على قسمين:
* الذين لم يجدوا في حكومة الكوفة ما يشبع نهمهم ويروي من ظمأهم فيما يحلمون به من مطامع، فأضمروا ولاءهم للشام مترقبين سنوح الفرصة للوثوب على الحكم وتسليم الأمر لمعاوية.
* وهم الذين حقدوا على حكومة الكوفة لضغائن في نفوسهم أورثتها العهود السالفة، أو حسابات شخصية.
3) الفئة المترجحة التي ليس لها مسلك معين أو مهمة خاصة مستقلة، وإنما هدفها ضمان السلامة، وبعض المطامع عند الجهة التي ينعقد لها النصر.. فهي تترقب عن كثب إلى أي جهة يميل ميزان القوة لتميل معه.
4) الفئة الغوغائية، وهي الفئة التي لا تستند في موقفها إلى أساس بل هم اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح.
5) الفئة المؤمنة المخلصة، وهي القلة الخيرة التي يذوب صوتها في زحام الأصوات الأخرى المعاكسة لها..
كيف نظر الإمام الحسن (ع) إلى تلك الخارطة البشرية المتناقضة؟
ذكر ابن طاووس في كتابه (الملاحم والفتن) كلاماً للإمام الحسن (ع) يعبر عن ضعف ثقته بجيشه، وكان من ابلغ ما افضى به في هذا الصدد، وذلك في خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن، قال فيه:
(وكنتم في مسيركم إلى صفين، ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وأنتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون منا بثأره، وأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر).
 

ممهدات الصلح
أمام هذا الخليط العجيب والمتنافر، لم يقف معاوية مكتوف اليدين - وكان قد عرف نقاط الضعف التي ابتلي بها جيش الإمام الحسن - فبدأت دسائسه تنطلق شاقة طريقها إلى معسكر الإمام (ع) في (مسكن) حيث بدأت تظهر بوادر الفتنة بوضوح، وقد وجدت تلك الدسائس مجالاً خصباً بوجود المنافقين، ومن يؤثرون العافية، وكانت الشائعة (إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم)(2).
ذكر الصدوق في العلل:
(إن معاوية دس إلى عمرو بن حريث، والاشعث بن قيس وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، إنك اذاقتلت الحسن فلك مائة ألف درهم، وجند من اجناد الشام وبنت من بناتي، فبلغ الحسن (ع) ذلك).
ويستسلم عبيد الله بن عباس قائد جيش الحسن لعدوه معاوية، جاراً معه عدداً كبيراً من الزعماء والقواد والجند، وقد بلغ عدد الفارين والمستسلمين ثمانية آلاف من اصل جيش تعداده عشرون الفاً مقابل ستين الفاً هو جيش الشام.
ويقف الإمام الحسن (ع) أمام هذه النكبات والمحن المتتالية، متطامناً على نفسه، ناظراً في أمره، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة.
وجاء وفد الشام المؤلف من المغيرة بن شعبة وعبد الله بن كريز وعبد الرحمن بن الحكم، وهو يحمل كتب أهل العراق ليطلع الحسن عليها، وليعرف ما انطوت عليه دخيلة أصحابه ممن أضمروا السوء وتطوعوا في صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة، عندما يحين موعدها المرتقب.
وعرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها مناسبة، ولكن الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية وكان دقيقاً في جوابه، بحيث لم يشعرهم بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك، ولم يحدد الإمام لنفسه موقفاً معيناً قبل أن يختبر جنده ليتأكد له إلى أي مدى سيصمد معه جيشه في لحظات العنف، ولينكشف له صريحاً واقع جيشه المكفهر الغامض.. فخرج وخطب الناس خطبة قال فيها (ألا إن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن اردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف وإن أردتم الحياة قبلنا، وأخذنا لكم الرضا)(3).
وبعث معاوية بالسجل المختوم للإمام الحسن (ع) ليشترط فيه ما يشاء لنفسه وأهل بيته وشيعته، وكتب الإمام الشروط، وأخذ من معاوية العهد والميثاق على الوفاء، واعطاه معاوية ما أراد مبطنا في داخله الحنث والنكول. 
بنود الصلح:
كانت نصوص الصلح هي:
1) تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنة رسوله (ص) وبسيرة الخلفاء الصالحين.
2) أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
3) أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وان لا يذكر علياً إلا بخير.
4) استثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف ألف، فلا يشمله تسليم الأمر، وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسين ألفي ألف درهم، وان يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وان يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، واولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم، وان يجعل ذلك من خراج دار أبجر.
5) على أن الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وان يؤمن الأسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وان لا يتبع احداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنة، وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا، وان لا ينال احداً من شيعة علي بمكروه، وان أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق حقه، وعلى ما اصاب أصحاب علي حيث كانوا.
وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.
هذه هي المواد الخمس التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين، ولا أقل من أنها تمثل لنا طبيعة الشروط التي أملاها الحسن على معاوية.
 

قراءة بعيون معاصرة
بالعودة إلى بنود الصلح، سنحاول تفكيك ما ورد في كل بند، من كلمات ومعانيها ليتسنى لنا اخراج مظاهر اللاعنف في تلك البنود.
في البند الأول، ترد كلمة تسليم، والتي هي في جذرها - سلم - ومنها السلم والسلام.
ولا تتم عملية تسليم شيء ما إلا بصورة ودية هادئة تحمل كل معاني السلم والسلام بين اثنين أو اكثر.
وشرط التسليم هو العمل بكتاب الله، الذي لا تجد فيه إلا دعوات المحبة والوئام والتسامح ونبذ القطيعة والقتال والعنف، وكذلك سنة رسول الله (ص).
فالتسليم لا يتم إذن إلا على وفق المبدأ القرآني الثابت الذي لا يتغير بتغير الظروف والاحوال، وهو مبدأ احترام الإنسان لإنسانية الآخرين وعدم تهديدها أياً كان شكل هذا التهديد، بالقول أو الفعل.
في البند الثالث: أن يترك سب أمير المؤمنين لما يعنيه هذا الفعل من عنف موجه إلى الآخرين لالحاق الضرر النفسي فيهم، والانتقاص من رمز لهم يجلّوه ويقدسوه، وهو ما اصطلح عليه في عصرنا بالعنف الرمزي أو المعنوي الذي (يلحق الضرر بالموضوع سيكولوجياً: في الشعور الذاتي بالامن والطمأنينة والكرامة والاعتبار والتوازن)(4).
(إذ ليس هناك من تصرف سواء أكان سلبياً - كرفض العون مثلاً - أو ايجابياً، رمزياً كالسخرية مثلاً أو ممارس فعلياً لا يمكنه أن ينشط كسلوك عدواني)(5).
في البند الرابع، أن يفرق بين أولاد من قتل، والمغزى واضح فيه، وهو تعويض هؤلاء الأبناء عما لحق بهم من ضرر نفسي واجتماعي واقتصادي نتيجة مقتل آبائهم المعيلين لهم والمتربين في احضانهم.. فهو تعويض - وإن لم يكن كافياً - عن مرارة اليتم والفاجعة والحزن الذي اصاب هؤلاء الأبناء.. وهو ما نراه تأخذ به المحاكم في القوانين العصرية الحديثة، حين يقيم المتضرر نفسياً الدعوى على من أوقع به الضرر مطالباً بالتعويض المادي عما لحق به.
في البند الخامس: احتوى على أربعة عشرة مادة رافضة للعنف بجميع اشكاله.
فالناس آمنون، ولا يتحقق هذا الأمن إلا بعدم وجود ما يشعر بالخوف وعدم الطمأنينة.
وان يكون الأمن شاملاً لجميع الاعراق والألوان، لا فرق بين اسود واحمر، لان الناس سواسية في الشعور بالخوف والامن.. احتمال الهفوات يدل على العفو لما بدر من الآخرين من أخطاء يبقى الخوف من تبعاتها مسلطاً على الرقاب وباثاً الرعب في النفوس.
وعدم اتباع أحد بما مضى من سابق جناية أو خطأ ارتكبه، ليشعر المخطئ بالعفو عما ارتكبه، ولتكون فرصة لعدم الرجوع إلى الخطأ مرة أخرى ولا يأخذ أهل العراق بإحنة، وتعني الحقد والغضب لانهم قاتلوا ضده، وعلى أمان أصحاب من قادهم للقتال ضده، وهم آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، إلى آخر ما موجود في هذا البند.
وهي جميعها - تلك المواد - تلح على مبدأ الأمن والطمأنينة وعدم الخوف، وعدم الايذاء، وعدم منعهم من الحصول على ما تعودوا عليه.
كل ذلك يكشف لنا الوجه المدني المتحضر للسياسة التي اتبعها الإمام الحسن (ع) في مقابل الوجه الآخر للسياسة بمعناها الوحشي الذي اتبعه معاوية. سواءاً قبل الصلح أو بعده.
فإذا كان هدف السياسة والممارسة السياسية هو (تحقيق المصلحة، أكانت فـــردية أو جماعية، وتــنميتها والــــدفاع عنها)(6) وهو ما كان يعمل عليه الإمام الحسن (ع)، فإن الوجه الآخر للسياسة الذي هو (بمثابة عملية نزاعية مجردة من كل قيمة إنسانية ومن كل قاعدة اخلاقية ترعى مصالح الآخرين أو تحترم حقوقهم، أو حتى آدميتهم في بعض الحالات)(7) قد عمل عليه معاوية من خلال منزع تسلطي وعنفي يفضي إلى اقصاء أي خصم عن ميدانها بالقمع المنظم والقمع العشوائي.
هذا القمع عند تسليط الضوء عليه، يكشف عن نزعة عدوانية كامنة في نفسية معاوية.. الذي يمكن النظر لعدوانيته (إنها سلوك مدفوع بالغضب والكراهية أو المنافسة الزائدة وتتجه إلى الإيذاء والتخريب أو هزيمة الآخرين)(8).
 

خاتمة
لا يمكن أن أدعي بأني قد قدمت تفسيراً واضحاً لمبدأ اللاعنف الذي اشتملت عليه بنود الصلح في هذه العجالة القصيرة، وحسبي أني اوقدت شمعة صغيرة تنير لمن يهمه قراءة أحداث التاريخ بعيون معاصرة ترتبط أحداث ما مر بواقعنا وحاضرنا للخروج بعبرة إلى مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة.


1- شرح النهج، ابن أبي الحديد المعتزلي، ج10، ص67. 
2- نفس المصدر، ج16، ص42. 
3- ابن الاثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص204. 
4- العنف والديمقراطية، عبد الإله بلقزيز، ص24. 
5- سيكولوجية العنف والعدوان، د. عبد الرحمن العيسوي، ص27. 
6- العنف والديمقراطية، عبد الإله بلقزيز، ص18. 
7- نفس المصدر، ص20. 
8- سيكولوجية العنف والعدوان، د. عبد الرحمن العيسوي، ص26.

الامام الحسن عليه السلام - المصلح الرسالي و الدور المغيب

الشيخ محمد العبيدان القطيفي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة
من الأمور التي لا يمكن التغافل عنها هي أن دور الإمام الحسن (عليه السلام) الرسالي مطابق ومكمل لدور أبيه الإمام علي (عليه السلام) وهو بدوره مكمل ومطابق لدور الإمام الحسين (عليه السلام) وكذا الأئمة جميعاً يقومون بهذا الدور الرسالي كلٌ حسب ظرفه والأمور التي تمر به.
وقد أشاد الرسول (صلى الله عليه وآله) بالإمام الحسن وقال: (ألا أخبركم بخير الناس عمّاً وعمّة: قالوا بلى يا رسول الله قال (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب. وقال أيضاً (صلى الله عليه وآله): ألا أن أباهما في الجنة، وأمهما في الجنة، وجدهما في الجنة وخالهما في الجنة وخالتهما في الجنة وعمهما في الجنة وعمتهما في الجنة وهما في الجنة ومن أحبهما في الجنة(1).
إذن وبعد كل تلك المناقب والفضائل لم لا يكون الإمام الحسن (عليه السلام) هو الإمام المرشح لخلافة المسلمين بعد شهادة أبيه (عليه السلام).

مبايعته
وبالفعل فقد بايعه الناس في يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان وهو يوم وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) سنة أربعين للهجرة.
وبايعه أهل البصرة والمدائن وأهل العراق كافة، وأهل الحجاز واليمن وفارس وجميع المهاجرين والأنصار وكل المسلمين في البلاد الإسلامية قاطبة ولم يتخلف عن البيعة إلا معاوية ومن معه.
أصبحت الكوفة العاصمة كما كانت في عهد أبيه علي (عليه السلام) وهي من أكبر الأمصار الإسلامية في تلك الفترة، حيث غلب على أهلها وساكنيها التشيع لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده لأبنائه (عليهم السلام)، ولكن بسبب اختلاف الناس الذين توافدوا إلى الكوفة فقد ظهرت اتجاهات وأهواء مختلفة خاصة بسبب دسّ الدسائس وسيطرة الشهوات. وكان الخوارج وهم أشد خطراً ونكالاً من جميع الفئات وهم أداة الكوارث والنكبات وخاصة في خلافة الإمام الحسن (عليه السلام).
ويليهم الشكّاكون وهم طائفة من سكان الكوفة ورعاعها. والفئة الثالثة الحمراء وهم جماعة مسلحة يبلغ تعدادهم عشرون ألفاً من المهجنون من موالٍ وعبيد وأحلافهم وهم شرطة زياد، وكما ترى فان هذا هو وضع دولة الإمام الحسن (عليه السلام) ، بالإضافة إلى كل هذا فهناك الحزب الأموي وطرفه الممتد إلى الكوفة. فعمرو بن حريث وعمار بن الوليد بن عقبة وحجر بن أبي موسى الأشعري هم الذين يشكلون هذا الحزب الأموي وقد كتبوا إلى معاوية بالسمع والطاعة سراً ووسوسوا لهُ بسهولة الأخذ بالإمام الحسن (عليه السلام) أو الفتك به، أما الوضع في الخارج فمعاوية الذي يعيث فساداً في الأرض.
ويوم عرف بمبايعة الناس للحسن (عليه السلام) هاج كالثور وجمع أعوانه وجلاوزته وتداول معهم في الأمر. فاستعمل كل قواه وتجاربه لتنظيم المعسكرات وتدبير شؤون الحرب من جانب، وشراء ضمائر المجتمع المنافق الذي شكّل ناصية التمهيد لغايته في الزعامة والتسلط.

الإمام الحسن في كنف الرسول (صلّى الله عليه وآله)
عندما سمع الرسول (صلّى الله عليه وآله) بنبأ ولادة الزهراء (عليها السلام) لمولودها أسرع إلى بيت ابنته ليهنئها بمولودها الجديد ويبارك به لأخيه أمير المؤمنين ولما وصل (صلى الله عليه وآله) إلى مثوى الإمام نادى: يا أسماء هاتي ابني.
وقام (صلى الله عليه وآله) فسرأه، وألباه بريقه، وضمه إلى صدره ورفع يديه بالدعاء له. وبعدها أذّن له في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، همسة رائعة همس بها خير بني آدم في أذن وليده، ليستقبل عالم الوجود باسمى ما فيه، فأي بداية منح بها الإنسان أفضل من هذه البداية التي منح به السبط الأكبر؟
وبعدها التفت (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: هل سميت الوليد المبارك؟
فأجابه الإمام: ما كنت لأسبقك يا رسول الله.
وانطلق النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: (ما كنت لأسبق ربي).
وما هي إلا لحظات وإذا بالوحي يناجي الرسول ويحمل له (التسمية) من الحق تعالى يقول له جبرئيل: (سِّمه حسناً)(2).
وكنّاه النبي (صلى الله عليه وآله) (أبا محمد) ولا كنية له غيرها. وقد حفظ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمره الشريف أربع سنين الشيء الكثير من الأحاديث منها أنه قال (عليه السلام): علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلمات أقولهن في الوتر: (اللهم، اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت فأنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت)(3).
وروى ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل فقال نعم المركب ركبت يا غلام، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله) ونعم الراكب هو)(4).
وقال (صلّى الله عليه وآله): من سرّه أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن)(5).
وفي رواية أخرى يتبين لنا مدى حب الرسول للإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) أنه ذات مرة اعتلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعواد المنبر يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران فنزل (صلى الله عليه وآله) عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه وقال: صدق الله إذ يقول: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)(6).
قطع الإمام الحسن (عليه السلام) شوطاً من طفولته مع جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى توسعت مداركه وتمت ملكاته وهو ناعم البال قرير العين يرى من جده (صلى الله عليه وآله) الحنان والعطف ومن الصحابة التعظيم والتكريم ولكن هذا الأمر لم يدم، فقد توفي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولكن قبل وفاته توّج حياته الكريمة بإعطاء الخلافة إلى الإمام علي (عليه السلام) في غدير خم... وقد أثّر هذا الهول العظيم (وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) والحادث الجلل على قلب الإمام الحسن (عليه السلام) وهو في سنّه المبكر فذبلت منه نضارته وروعته فقد رأى من يفيض عليه من رقيق حنانه يوارى الثرى، ورأى والديه وقد أضناهما الذهول وأحاط بهما الأسى على فقد الرجل العظيم فترك ذلك في نفسه شديد الألم ولاذع الحزن. وقد كان عمر الإمام الحسن (عليه السلام) سبع سنوات.

بلاغة الإمام الحسن (عليه السلام)
وجّه الإمام علي (عليه السلام) إلى الحسن أسئلة تتعلق بأصول الأخلاق والفضائل، فأجابه الحسن (عليه السلام) بما هو عفو البداهة والخاطر فكأن الجواب آية من آيات البلاغة والأعجاز:
ـ الإمام علي: يا بني ما السداد؟
ـ الحسن: يا أبتِ السداد دفع المنكر بالمعروف.
ـ ما الشرف؟
ـ اصطناع العشيرة وحمل الجريرة.
ـ ما المروءة.
ـ العفاف وإصلاح المرء ماله.
ـ ما الدنيئة.
ـ النظر في اليسير ومنع الحقير.
ـ ما السماحة؟
ـ البذل في العسر واليسر.
ـ ما الشُّح؟
ـ أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً(7).
وهكذا وغير هذه من الأسئلة حتى أن النفس لتقف حائرة أمام هذا الاسترسال العجيب من الإمام الحسن وعدم تكلفه في الجواب.
قال جابر سمعت الحسن (عليه السلام) يقول: مكارم الأخلاق عشرة صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والتذمم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب، وقرى الضيف ورأسهن الحياء(8).
وجاء شخص إليه فقال: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أحسن الناس:
ـ من أشرك الناس في عيشه.
ـ من أشر الناس؟
ـ من لا يعيش في عيشه أحد(9).


1 ـ كشف الغمة ص 147 ـ 148.
2 ـ تاريخ الخميس: ج1 ص470.
3 ـ صحيح الترمذي 1/93. مستدرك الحاكم 3/ 172. تاريخ ابن عساكر 4/20.
4 ـ الصواعق: ص82، حلية الأولياء.
5 ـ فضائل الأصحاب: ص165، والنهاية 8/ 35.
6 ـ صحيح الترمذي 2/ 306. صحيح النسائي 1/ 309.
7 ـ حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، باقر شريف القرشي، مؤسسة الوفاء - بيروت لبنان ج1 ص310-314)
8 ـ تاريخ اليعقوبي 2/201.
9 ـ المصدر نفسه 2/ 202.

حلم الإمام الحسن نهج للتسامح الاجتماعي

حسن موسى الصفار

من أبرز صفات الإمام الحسن (عليه السلام) التي عرف بها صفة الحلم، حيث اشتهر عنه أنه (حليم أهل البيت)، روى المدائني عن جويرية بن أسماء قال: لما مات الحسن أخرجوا جنازته فحمل مروان بن الحكم سريره، فقال له الحسين: تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعّه الغيظ؟ قال مروان: نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال(1).

وهذه الصفة في الحقيقة هي منهج للتعامل الاجتماعي، عمل الإمام على إرسائه في حياته، وعلى أتباعه ومحبيه أن يقتدوا به في هذا المنهج.

إننا يجب أن نقرأ حلم الإمام الحسن (عليه السلام) كمنهج في التسامح الاجتماعي، ونعمل على تأهيل المجتمع بهذه الصفة.

ولابد لنا أن نشير إلى أن أهل البيت (عليهم السلام) كلهم يتصفون بالحلم، إلا أن الظروف التي عاشها الإمام الحسن (عليه السلام) اقتضت وساعدت على بروز هذه الصفة في شخصيته بشكل أجلى وأوضح، فالإمام كان يواجه تشنجات واستفزازات من جهتين:

الجهة الأولى: خارجية، وتتمثل في معاوية بن أبي سفيان، وجبهة الشام، حيث سعى بكل جهده وقوته، وإمكانيات سلطته وحكمه، إلى أن يشوّه سمعة الإمام الحسن (عليه السلام)، لعزله شعبياً، فعمل على إثارة الدعايات والإشاعات الكاذبة والمغرضة على الإمام الحسن (عليه السلام)، وعلى أبيه أمير المؤمنين، واستطاع نتيجةً لذلك أن يوجد تياراً في الشام يكره أهل البيت (عليهم السلام)، حتى لقد صدق بعضهم أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يكن يصلي!!

ولقد كان معاوية يتعمد كثيراً أن يُسمع الإمام الحسن (عليه السلام) وفي حضوره بعض الاستفزازات، وكان بعض أتباعه والمقربين منه كمروان بن الحكم، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، يقومون بمثل هذا الدور.

الجهة الثانية: داخلية، حيث إن قرار الإمام بالصلح مع معاوية، والذي فرضته عليه الظروف، ورعاية مصلحة الأمة، أثار مشاعر بعض المحيطين بالإمام، ونظروا إلى الصلح على أنه موقف ذل وخنوع واستسلام، فراحوا يوجهّون لومهم العنيف، وعتابهم الشديد، وبعبارات مسيئة وغير لائقة.

فهذا حجر بن عدي الصحابي الجليل يخاطبه قائلاً: (أما واللَّه لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك). وعدي بن حاتم يقول: (أخرجتنا من العدل إلى الجور). وبشير الهمداني وسليمان بن صرد الخزاعي يدخل كل منهما عليه هاتفاً: (السلام عليك يا مذل المؤمنين). وخاطبه بعض أصحابه قائلاً: (يابن رسول اللَّه أذللت رقابنا بتسليمك الأمر إلى هذا الطاغية)(2).

وجاء في (الإصابة): (كان أصحاب الحسن يقولون له: يا عار أمير المؤمنين. فيقول: العار خير من النار)(3).

ومثل هذه الكلمات لا شك أنها تستفز الإنسان، وتؤجج غيضه، لكن الإمام الحسن (عليه السلام) واجهها بحلم وأناة بالغين، واستطاع بذلك امتصاص الآثار والنتائج السلبية، التي يمكن أن تتمخض عنها… لقد كانت جبهة الإمام الحسن (عليه السلام) بحاجة إلى التماسك والتلاحم، فهناك شروط على معاوية أن ينفذّها، لكنه إذا رأى جبهة الإمام متشتتة مختلفة، ومكانة الإمام مهزوزة في وسط جماعته، فإن ذلك سيشجعه أكثر على تجاهل تلك الاتفاقات، وهو لم يكن في الأساس عازماً على الوفاء بها.

الحلم لغة واصطلاحاً:

مصدر حَلُمَ فلان أي صار حليماً، قال ابن فارس الحِلم: خلاف الطيش، وقال الجوهري الحِلم الأناة، ويقال: حَلَمَ الرجل في منامه يحَلُمُ حُلْماً، إذا رأى رؤيا، وحَلُمَ يَحلُمُ حِلماً تأنى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة وقوة.

واصطلاحاً: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب كما يقول الراغب(4).

قيل للإمام الحسن (عليه السلام): ما الحلم؟ قال: (كظم الغيظ وملك النفس)(5)، أي أن يسيطر الإنسان على نفسه، حينما يواجهه الآخر بتصرف مستفز، ذلك أن غريزة الغضب تتحرك عنده، لتحميه من الاستفزاز الموجه إليه.

ولكن الحليم هو من يتحكم في توجيه هذه الغريزة، ولا يستخدمها إلا في ظرفها المناسب، لأن إتاحة الفرصة لهذه الغريزة أن تنفجر على شكل تصرف غاضب، قد يضر الإنسان بدلاً من أن يفيده.

وكم من مظلوم تصرف تصرفاً طائشاً، وتحول بسبب ذلك التصرف إلى ظالم مدان، فأعطى الفرصة لعدوه، يقول الإمام علي (عليه السلام): (الغضب شر إن أطلقته دمر)(6).

إن الغضب في الحقيقة هو نتيجة استثارة خارجية، يستقبلها الإنسان، فتحفزّه على اتخاذ رد فعل غاضب.

وللتحكم في هذه الغريزة، ولتوجيهها التوجيه المناسب، تنصح التوجيهات الإسلامية بذكر اللَّه تعالى، ففي الحديث القدسي (يا بن آدم اذكرني حين تغضب)(7)، وقال (صلى الله عليه وآله): (يا علي لا تغضب، فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد، وحلمه عنهم، وإذا قيل لك اتق اللَّه، فانبذ غضبك، وراجع حلمك)(8).

وليس أروع من أن يداوي الإنسان ثورة غضبه، بلجوئه إلى العبادة، فصلاة ركعتين قربة إلى اللَّه تعالى بإخلاص وخشوع لاشك أنها ستنقل الإنسان إلى الاتصال بعالم الكمال والروحانية، حيث يستلهم الإنسان من خالقه فيوضات رحمته، وألطاف كرامته.

كما تنصح بعض الروايات بالانتقال من حال إلى حالة أخرى عند الغضب. عن أبي ذر أن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) قال: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)(9).

والهدف من ذلك، هو تفريغ شحنات الغضب في حركة لا ضرر فيها. وفي حديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنه ينصح بالوضوء قال (صلى الله عليه وآله): (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء،فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)(10).

أضرار حالة الانفعال والتشنج:

تسود البعض من الناس حالة من التشنج والانفعال السريع، لأتفه الأسباب،كما يفسح المجال لفورة غضبه أن تأخذ مداها العنيف، وهذه الحالة سيئة ومضرة، وأهم نتائجها السيئة أمران:

أولاً: الأضرار الصحية، حيث تشير التقارير الطبية، إلى أن الغضب والانفعال، يعتبر سبباً لأمراض السكري، وضغط الدم، وأمراض القلب، ولهذا فإن أهم ما يوصي به الأطباء هؤلاء المرضى، هو السيطرة على النفس، وعدم الانفعال.

ثانياً: إضعاف حالة التماسك الاجتماعي، حيث ينشغل أفراد المجتمع بمشاكلهم الجزئية والثانوية، التي تذكيها حالة التشنج، وفي غمرة كل ذلك تتلاشى الأهداف والطموحات الكبيرة، التي كان ينبغي أن ينشغل الكل بها، فيتأخر تحقيق المجتمع للأهداف والمصالح العامة، بسبب الانشغال بالخلافات الهامشية.

الحلم منهج اجتماعي:

تارة يكون الحديث عن الحلم باعتباره صفة فردية حميدة، وتارة يبحث الحلم كحالة اجتماعية عامة، بين آحاد أفراد المجتمع، وبين التكتلات والتجمعات فيه.

إذ من الواضح أن في كل مجتمع تقسيمات اجتماعية متفاوتة، مناطقية وسكنية، أو عشائرية وقبلية، أو فكرية ومذهبية، أو انتماءات سياسية، وما أشبه.

والسؤال كيف يجب أن تكون العلاقة بين كل مجموعة وأخرى؟

إن شيوع حالة التشنج والغضب يؤثر على علاقة هذه الانتماءات، فتقاطع كل فئة الأخرى، أو توجه بعضاً من جهودها للمناوأة و التخريب على الجهة الأخرى.

أما إذا ساد الحلم، وشاع التسامح بين التجمعات والتوجهات، تحول الحلم حينئذ إلى منهج اجتماعي عام، وآتى ثماره في تحقيق وحدة المجتمع وانسجامه، وتوجه جهوده وطاقاته نحو الأهداف الكبيرة، والتحديات الخطيرة.

ومن الملاحظ أن الخلافات والصراعات بين الجماعات، عادة تحدث بسبب تصرفات فردية متشنجة، لدى هذا الطرف أو ذاك، فيتعامل معها الطرف الآخر بنظره تعميمية، ويتخذ رد فعل على أساسها.

كيف نتعامل مع التشنجات الفئوية؟

أولاً: عدم تعميم الإساءة، ومحاسبة كامل الجماعة عليها.

ثانياً: بث روح التسامح والإغضاء عن الإساءات التي قد تصدر من هذه ضد تلك وبالعكس، حيث ينبغي أن يتصف أفراد وقادة الجماعات بالحلم، لأن تلك الإساءة قد تكون نتيجة لسوء فهم أو التباس، أو لأن جهة ما تريد أن تخلق مشكلة بين الطرفين.

ثالثاً: عدم رفع وتيرة الاختلاف الفكري والثقافي إلى مستوى الخلاف والنزاع. ونشر ثقافة التعددية والقبول بالرأي الآخر.

إن تضخيم الخلاف حول بعض القضايا الجانبية، كثبوت هلال شهر رمضان أو العيد، أو اختيار مرجع تقليد، أو تبني هذه الفكرة أو تلك، واعتبار مثل هذه القضايا الجزئية حدوداً فاصلة بين الإيمان والكفر، والعدالة والفسق، أمر خاطئ ناشئ من الجهل أو سوء الخلق.

نهج الإمام الحسن:

لقد كان الحلم منهجاً سلوكياً، ومعلماً بارزاً، في حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان يتعامل به في مقابل الاستفزازات الفردية العادية، ومع ذوي التوجهات المخالفة له، والمختلفة معه، وكشاهد على المنحى الأول: يروى أنه كانت عنده عليه السلام شاة فوجدها يوماً قد كسرت رجلها، فقال لغلامه: من فعل هذا بها؟ قال الغلام: أنا. قال الإمام: لم ذلك؟ قال الغلام: لأجلب لك الهم والغم.

فتبسم (عليه السلام)، وقال له: لأسرك، فأعتقه وأجزل له في العطاء(11).

وضمن المنحى الثاني، ينقل المؤرخون: أنه اجتاز على الإمام شخص من أهل الشام، ممن غذاّهم معاوية بالكراهية والحقد على آل البيت، فجعل يكيل للإمام السب والشتم، والإمام ساكت لم يرد عليه شيئاً من مقالته، وبعد فراغه التفت الإمام فخاطبه بناعم القول، وقابله ببسمات فياضة بالبشر، قائلاً:

(أيها الشيخ: أظنك غريباً؟ لو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أطعمناك وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك) ومازال (عليه السلام) يلاطف الشامي بهذا ومثله ليقلع روح العداء والشر من نفسه حتى ذهل ولم يطق رد الكلام، وبقي حائراً خجلاً كيف يعتذر للإمام وكيف يمحو الذنب عنه؟ وطفق يقول: (اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته)(12).

إن مما يساعد على اتخاذ الموقف الحليم فهم الطرف المقابل ومعرفة الظرف النفسي والفكري الذي يحيط به، فإذا فهمت أنه مضلل، أو معبأ، وأنه هو الآخر ضحية لعدو واحد، كنتَ أقدرَ على السيطرة على الموقف، وتحويله لصالحك، لا لصالح عدوكما.

ولهذا فإن العاقل هو الذي يملك الحلم، يقول علي عليه السلام: (بوفور العقل يتوفر الحلم)(13) ويقول: (عليك بالحلم فإنه ثمرة العلم)(14) ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم)(15)، فالعالم هو الذي ينبغي أن يتحلى بالحلم، لأنه يتفهم سلبيات الجاهلين، ودوافع أخطائهم.

ويحدث أحياناً أن يفد على المجتمع أفراد من مجتمعات أخرى، يحملون معلومات وأفكاراً مضللة حول المجتمع وأفكاره وعقائده.

فإذا كان الشخص المقابل لهم واعياً، يعرف أنهم بسطاء ومضللون، فإنه يستوعب أولاً الصدمة التي يحدثها كلامهم، ثم يبدأ في تغيير تلك الصورة المشوهة، ويعطي للوافد بأخلاقه وسلوكه مثالاً حياً على خطأ تصوراته السابقة.

أما إذا كان من يقابله شخصية متشنجة، فسوف يستفزها ذلك الكلام لترد عليه بكلام أقسى وباتهامات ونعوت مضادة، وهذا الأسلوب غالباً ما يؤدي إلى تأكيد التصورات الخاطئة عن المجتمع.

ومن المثير للدهشة والعجب أحياناً، أن يعتبر هؤلاء الأشخاص تصرفاتهم المتشنجة تلك بطولات وإنجازات، تستحق الذكر والإشادة، فترى بعضهم يحدثك عنها وكأنه انتصر على عدو، وهو لا يعلم أنه بذلك أكدَّ هزيمته.

ففي الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)(16).

ومن هذا كله ما أحوجنا إلى قراءة سيرته العطرة، والتزام خطه الرسالي، والأخذ بمنهجه في التسامح الاجتماعي، لتسود أجواءنا المحبة والوئام، ولنتوجه لمواجهة الأعداء والأخطار صفّاً كالبنيان المرصوص.

الهوامش:

- ابن أبي الحديد: عبد الحميد، شرح نهج البلاغة ج16 ص13 دار الجيل – بيروت، الطبعة الأولى 1987م.

2- القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسن ج 2 ص 273 – 282، دار الكتب العلمية- قم.

3- العسقلاني: ابن حجر، الاصابة ج2 ص72 الطبعة الاولى 1992م دار الجيل – بيروت.

4- مجموعة من المختصين: موسوعة نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم ص 1735 الجزء الخامس، الطبعة الاولى 1998م دار الوسيلة، جدة.

5- المجلسي: محمد باقر، بحار الانوار ج75 ص102.

6- الامدي التميمي: عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم.

7- الكليني: محمد بن يعقوب، الكافي ج2 ص304.

8- ابن شعبة الحراني: الحسن بن علي، تحف العقول ص18.

9- السجستاني: ابو داود سليمان بن الاشعث، سنن ابي داود ج2 ص664 حديث رقم 4782.

10- المصدر السابق حديث رقم 4784.

11- القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسن ج1 ص214.

12- المصدر السابق ص314-315.

13- الامدي التميمي: عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم.

14- المصدر السابق.

15- المجلسي: محمد باقر، بحار الانوار ج2 ص46.

16- الريشهري: محمدي، ميزان الحكمة ج7 ص234.

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى