التوسُّل في معناه واحد، لا يمكن تقسيمه من هذا الوجه،
غير أنّه من حيث تعيين المتوسَّل به ـ أي الوسيلة ـ يتعدّد بتعدّد الوسائل، فليس كل
شيء يصلُح أن يكون وسيلةً إلى الله تعالى، وإنّما هناك وسائل أمر الشارع ببعضها
وشرّع البعض الآخر على نحو الاِباحة أو الاستحباب.
وأقسام التوسُّل بهذا الاعتبار هي:
1) التوسُّل بالله تعالى:
الله تبارك وتعالى أقرب إلى المرء من نفسه، وأعلم به من نفسه، وأرحم به من كل
شيء، فهو (
الرّحْمنُ الرَّحِيْم
) وهو
(
أرْحَمُ الرَّاحِمِيْن
) فجاز التوسُّل به تعالى إليه لنيل رضاه، وهو في نهاية اليقين به تعالى والوثوق به
والاعتماد عليه.
وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند النوم: «اللّهم إنّي أعوذ برضاك
من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك»(1).
وفي هذا الباب يدخل كل دعاء يكون الله جلَّ جلاله هو المخاطب فيه، فقولك: «اللهم
اغفر لي ذنبي»، «اللهم ارحمني»، «اللهم انّي أسألك رضاك» وغير ذلك إنّما هو توسُّل
بالله تعالى لنيل المغفرة، والرحمة، والرضوان.
ومن مفاتح هذا الباب: قوله تعالى: (
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم
)(2).
وقوله تعالى: (
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان
)(3).
ـ وممّا يظهر فيه معنى التوسُّل من هذا القسم، الدعاء المأثور: «اللهم إنّي أعوذ بك
من زوال نعمتك، ومن تحوّل عافيتك، ومن فجأة عقوبتك، ومن جميع سخطك»(4).
ـ وكم هي جلية عظمة هذا القسم من التوسُّل، لما يتميّز به من درجات اليقين بالله
والاِحساس الاَكبر بالقرب منه، كما نلمسه في دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام
: «لا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير يؤمِنني عليك، ولا حصنٌ يحجبني عنك، ولا ملاذ
ألجأ إليه منك.. ولا أستشهد على صيامي نهاراً، ولا أستجير بتهجّدي ليلاً... ولست
أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من
وظائف فروضك... هذا مقام من استحيا لنفسه منك»(5).
فهو عليه السلام يستبعد الشفعاء بينه وبين بارئه الذي إليه مآبه، وينحّي كل وسيلة،
رغم إمكان الاستشفاع والتوسل، كما هو واضح في قوله: «ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة
مع كثير ما أغفلتُ من وظائف فروضك» فهو لفرط استحيائه من خالقه يستحي أن يقدّم
طاعاته وسيلة بين يدي دعائه خشية أن يكون قد فرّط في أداء شيء من وظائف الفروض.
إنّه يجعل الله تعالى هو شفيعه وهو وسيلته إلى القرب منه ونيل رضاه.
ـ ومن دعائه عليه السلام : «وأشبه الاَشياء بمشيّتك، وأولى الاَمور بك في عظمتك،
رحمة من استرحمك، وغوث من استغاث بك»(6).
ـ وله عليه السلام أيضاً: «وياغوثَ كل مخذول فريد، ويا عضد كل محتاج طريد»(7).
ـ وقوله عليه السلام أيضاً: «وبك استغاثتي إن كَرِثْتُ»(8).
ـ وقوله عليه السلام : «واستجير بك اليوم من سخطك، فصلِّ على محمّدٍ وآله وأجرني»(9).
ـ وقوله الذي يحقّق هذه المعاني كلها: «فناديتك يا إلهي مستغيثاً بك، واثقاً بسرعة
إجابتك، عالماً أنّه لا يُضطَهَدُ من آوى إلى ظلِّ كنفِك، ولا يفزع من لجأ إلى
معقِل انتصارك»(10).
2) التوسُّل بأسماء الله الحسنى وصفاته جلّ جلاله
قال تعالى: (
وَللهِِ الاََْسْماءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا
)(11).
وهو أمر صريح بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى، وغالباً ما يأتي الدعاء بالاَسماء
الحسنى على صيغة التوسُّل والاستغاثة، وهو إذ يؤكّد أنّ الدعاء هو توسُّل واستغاثة
بالله تعالى إليه ولنيل المطلوب لديه، يضيف أُسلوباً جديداً من أساليب التوسُّل
والاستغاثة.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لله تسعة وتسعون اسماً، من
دعا الله بها استجيب له»(12).
ـ وقد جاء في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم : «يا حيُّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث».
ـ وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم يعلّم ابنته فاطمة عليها السلام أن تقول: «يا
حي يا قيّوم، يا بديع السماوات والاَرض، لا إله إلاّ أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي
شأني كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحدٍ من خلقك»(13).
ـ ومن حديثه صلى الله عليه وآله وسلم : «ما أصاب عبداً قطّ همٌّ ولا حزن، فقال:
اللهم إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضائك..
أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك،
أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري،
وجلاء حزني وذهاب همّي وغمّي؛ إلاّ أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحاً».
قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلّمها؟ يريدون هذه الكلمات.
قال: «
ينبغي لمن سمعها أن يتعلّمها»(14).
ـ وأخرج الترمذي من حديث بريدة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً
يقول: (اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت الاَحد الصمد
الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
«لقد سألت الله باسمه الاَعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى»(15).
ـ وأخرج الترمذي أيضاً من حديث أنس بن مالك أنّه كان جالساً مع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ورجل يصلّي، فدعا الرجل: (اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله
إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والاَرض، يا ذا الجلال والاِكرام، يا حيّ يا
قيّوم) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «تدرون بمَ دعا الله؟ دعا الله باسمه
الاَعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»(16).
ـ ومن حديث محجم بن الادرع، أخرجه الحاكم: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المسجد، فإذا هو برجل قد صلّى صلاته وهو يتشهَّد ويقول: اللَّهم إنِّي أسألك بالله
الاَحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنَّك
أنت الغفور الرحيم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «
قد غُفر له، قد غُفر، قد غُفر له» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه،
ووافقه الذهبي(17)
.
والحديث في مثل هذا وأشباهه كثير جداً.
وفي الدعاء النبوي الشريف: «اللَّهم إنِّي أسألك باسمك الاَعظم»(18)،
«اللَّهم إنِّي أسألك باسمك المخزون المكنون»(19)،
«اللَّهم إنِّي أسألك بأسمائك الحسنى»(20).
ـ وفي دعاء الاِمام السجّاد عليه السلام : «فأسألك اللَّهم بالمخزون من أسمائك»(21).
ـ وفي دعاء الاِمام الباقر عليه السلام : «اللهم إنّي أسألك باسمك العظيم الاَعظم،
الاَعزّ الاَجل الاَكرم، الذي إذا دُعيت به على مغاليق أبواب السماء للفتح بالرحمة
انفتحت، وإذا دُعيت به على مضايق أبواب الاَرض للفرج انفرجت...» الدعاء(22).
والتوسُّل بأسماء الله الحسنى كثير جدّاً في الدعاء المأثور، وعليه إجماع المسلمين،
لا يخالف فيه أحد.
ـ ومن صريح التوسُّل بصفاته: دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام : «اللهم يا من
برحمته يستغيث المذنبون»(23).
ـ ودعاؤه أيضاً: «اللهم صلِّ على محمّدٍ وآله، وشفّع في خطاياي كرمك.. اللهم ولا
شفيع لي إليك فليشفع لي فضلك»(24).
ـ وفي الدعاء النبوي الشريف: «اللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك»(25).
«اللهم إنّي أعوذ بنور وجهك الكريم وكلماتك التامّة»(26).
3) التوسُّل بالثناء على الله
والصلاة على النبيِّ وآله:
وهو أن يستفتح الداعي دعاءه بحمد الله تعالى بما هو أهل له من الحمد، والثناء
عليه، وأن يصلّي على النبي محمّدٍ وآله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّ ذلك أقرب في
استجابة الدعاء ونيل المطلوب.
قال الاِمام الصادق عليه السلام : «إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربِّه شيئاً
من حوائج الدنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّ والمدح له، والصلاة
على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمَّ يسأل الله حاجته»(27).
وقال: «إنّ العبد لتكون له الحاجة إلى الله تعالى فيبدأ بالثناء على الله والصلاة
على محمّد وآله حتى ينسى حاجته، فيقضيها من غير أن يسأله إيّاها»(28).
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «لا يزال الدعاء محجوباً حتى
يُصلّى عليَّ وعلى أهل بيتي»(29).
وفي حديث الاِمام علي عليه السلام : «كلُّ دعاءٍ محجوب حتى يُصلّى على محمد وآل
محمّد»(30).
من هنا تجد الحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي وآله تتصدّر الكثير من
الاَدعية المأثورة، ولعلّ أوضح ما تكتشف فيه هذه الظاهرة هي أدعية الاِمام السجّاد
عليه السلام في الصحيفة السجّادية التي تكاد كلّها تستهل بالحمد والصلاة، بل إنّ
الصلاة على النبي وآله تتصدّر الغالبية العظمى في فقراتها.
ومن صريح دعائه متوسّلا بالصلاة، قوله عليه السلام : «وصلِّ على محمّدٍ وآله صلاةً
دائمةً ناميةً، لا انقطاع لاَبدها، ولا منتهى لاَمدها، واجعل ذلك عوناً لي، وسبباً
لنجاح طلبتي، إنّك واسع كريم»(31).
4) التوسُّل بالقرآن الكريم
كما ورد سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، ورد أيضاً سؤاله جلّ شأنه
بالقرآن الكريم، وهو كتابه المنزل وكلامه المحكم.
عن عمران بن الحصين: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اقرأوا القرآن،
واسألوا الله تبارك وتعالى به، قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس»(32).
فكما يفيده عموم اللفظ من إرادة القربة ونيل الثواب والمنزلة بقراءة القرآن، فإنّه
يفيد أيضاً جواز سؤال الله تعالى به، وتقديمه بين يدي الدعاء.
وفي حديث الاِمام علي عليه السلام ما يبيِّن ذلك، قال عليه السلام : «واعلموا أنّ
هذا القرآن هوالناصح
الذي لا يغشّ... فاسألوا الله به، وتوجّهوا إليه بحبِّه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه
ما توجّه العباد إلى الله تعالى بمثله»(33).
وفي دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام : «واجعل القرآن وسيلةً لنا أشرف منازل
الكرامة...
«اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ واحطط بالقرآن عنّا ثقل الاَوزار...
«وهوّن بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق وجهد الاَنين..»(34).
وفي حديث أهل البيت عليهم السلام : «اللهم إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه
اسمك الاَكبر وأسماؤك الحسنى، وما يخاف ويرجى، أن تجعلني من عتقائك من النار»(35).
وممّا لا نزاع فيه أنّ القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «تعلّموا القرآن فإنّه شافع يوم القيامة»(36).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(37).
وفي حديث الاِمام علي عليه السلام في القرآن، وقد تقدّم طرف منه، يقول: «واعلموا
أنّه شافعٌ مشفَّع، وقائلٌ مصدَّق، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه»(38).
5) التوسُّل بالاَيّام المباركة
الاَيام التي جعل الله تعالى لها شأناً خاصّاً هي الاَُخرى باب من أبواب
التوسُّل والاستشفاع.
فقد جاء في دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام في شهر رمضان المبارك: «اللهم
إنّي أسألك بحقِّ هذا الشهر»(39).
6) التوسُّل بالاَعمال الصالحة
إذا كان المراد بقوله تعالى: (
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة
) هو إتيان الطاعات المقرِّبة إلى الله تعالى، كما تقدّم عن المفسّرين، فالطاعات
إذن هي الوسيلة إليه تعالى هنا، وبها يتوسَّل العبد لنيل القربة والمنزلة عند
بارئه.
ولم يقتصر التوسُّل بالاَعمال الصالحة على أدائها فقط، بل تضمّن أيضاً التوسُّل بها
إلى الله تعالى بالدعاء رجاءً لنيل المطلوب، من كشف الغم والهم، أو رفع الدرجة،
ونيل الرضوان.
وهذا المعنى منطوٍ في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بعد أن بنيا البيت
العتيق، إذ قدَّما عملهما المبارك بين يدي الدعاءِ، قال تعالى: (
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيم
)(40).
وروى البخاري وغيره حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصُّ على أصحابه قصة
الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فتوسّلوا بأعمالهم الصالحات ففرج عنهم، قال صلى
الله عليه وآله وسلم : «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم المطر،
فآووا إلى غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلاّ
الصدق، فليدعُ كلّ رجلٍ منكم بما يعلم أنّه صدق فيه.
فقال واحد منهم: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمل لي على فِرْقٍ(41)
من أرز، فذهب وتركه، وإنّي عمدتُ إلى ذلك الفِرْق فزرعته، فصار من أمره أنّي اشتريت
منه بقراً، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فَسُقها، فقال لي:
إنّما لي عندك فِرْق من أرُز! فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنّها من ذلك
الفِرْق.. فساقها.. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا... فانساحت
عنهم الصخرة.
فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كلَّ ليلةٍ
بلبن غنم لي، فأبطأتُ عنهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون(42)
من الجوع فكنت لا أسقيهم أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر،
فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا.. فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا
إلى السماء.
فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبِّ الناس إليَّ، وأنّي
راودتها عن نفسها، فأبت، إلاّ أن آتيها بمئة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها،
فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعت بين رجليها قالت: اتقِ الله، ولا تفضّ
الخاتم إلاّ بحقِّه! فقمت وتركت المئة دينار.. فإن كنت تعلم انّيفعلت ذلك من خشيتك،
ففرّج عنّا... ففرّج الله عنهم فخرجوا»(43).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد بهذا الحديث أن يمتّع أصحابه بقصةٍ من
قصص الغابرين، إنّما كان يريد ما فيها من دروس وعبر، فهي بعد ما تتركه من أثر وثيق
في شحذ الاَرواح وزيادة اليقين، تؤدّي دور التعليم لواحد من سبل الخلاص من الشدائد،
ألا وهو التوسُّل بالاَعمال الصالحات.
وفي بعض التفاسير أنّ المراد بأصحاب الرقيم في قوله تعالى: (
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ
كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا
ً)(44)
هم هؤلاء النفر الثلاثة.
قال الطبرسي، في ذكر الوجوه الواردة في معنى الرقيم: وقيل أصحاب الرقيم هم النفر
الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسدّ عليهم، فقالوا: ليدعُ الله تعالى كل واحد منّا
بعمله حتى يفرّج الله عنّا، ففعلوا، فنجّاهم الله. قال: رواء النعمان بن بشير،
مرفوعاً(45).
ـ وفي هذا الباب أيضاً التوسُّل بالكشف عن الاعتقاد المرضي عند الله جلّ شأنه،
كالذي يستفاد من قوله تعالى: (
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَقِنَا عَذَابَ النَّار
)(46).
فقدّموا الاِيمان وسيلةً بين يدي دعائهم.
وفي ذلك من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام شيء
كثير:
ـ ففي دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك
أنت الاَحد..»(47).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللهم أنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك الله لا إله
إلاّ أنت»(48).
ـ وفي دعاء الاِمام زين العابدين صلى الله عليه وآله وسلم : «ووسيلتي إليك التوحيد،
وذريعتي أنّي لم أشرك بك شيئاً ولم أتخذ معك إلهاً»(49).
7) التوسُّل بدعاء الغير
للمؤمن عند الله تعالى كرامة.. من هنا جعل الله للمؤمن شفاعةً في إخوانه وذويه
من المؤمنين يوم القيامة، بل في الدنيا أيضاً، ففي الحديث الشريف: «قد أَجَرْنا
مَنْ أجَرْتِ أُمَّ هانئ»(50)
لمّا استجار بها قوم من المشركين يوم الفتح، والجوار معروف في الاِسلام ومحفوظ.
ودعاء المؤمن لاَخيه المؤمن في الغيب من الدعوات المجابة، ومن الدعوات التي يستحب
للمؤمن فعلها.
ففي الحديث الشريف: «إنّ دعوة المسلم مستجابة لاَخيه بظهر الغيب»(51).
بل قد جاء في الحديث الشريف الحثُّ على التوسُّل بدعاء بعض المؤمنين بأعيانهم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ رجلاً من أهل اليمن يقدم عليكم.. يقال له
أُوَيس، فمن لقيه منكم فليأمره فليستغفر لكم»(52).
وقصة عمر بن الخطاب في طلب أُوَيس القرني والتماس دعوته مشهورة(53).
في ترجمة أُوَيس، قال الذهبي بعد أن ذكر عدّة أحاديث في التماس عمر دعاءه، قال:
نادى عمر بمنىً على المنبر: يا أهل قَرَن.. فقام مشايخ، فقال لهم عمر: أفيكم من
اسمه أُوَيس؟
فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ذاك مجنون يسكن القفار، لا يألَف، ولا يؤلَف.
قال: ذاك الذي أعنيه، فإذا عدتم فاطلبوه، وبلّغوه سلامي وسلام رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم .
قال: فقال أُوَيس ـ لمّا بلغه ذلك ـ : عَرَّفني، وشهَّر باسمي؟! اللّهم صلِّ على
محمّدٍ وعلى آله، السلام على رسول الله، ثم هام على وجهه، فلم يُوقَف له بعد ذلك
على أثر دهراً، ثمَّ عاد في أيّام علي عليه السلام ، فاستشهد معه بصفّين، فنظروا
فإذا عليه نيّف وأربعون جراحة(54).
وكل هذا صريح في التوسُّل بدعاء المؤمن، فهو مرتبة من مراتب التوسُّل.
وأشرف المؤمنين على الاِطلاق هو سيد البشر أجمعين محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله
وسلم ، وقد أمر الله تعالى بالتماس دعوته وإتيانه لطلب دعائه
واستغفاره.
قال تعالى: (
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً
)(55).
وقال
تعالى: (
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رُسُولُ اللهِ لَوَّوْا
رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُون
)(56).
والتوسُّل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهور بين الصحابة.
قال ابن تيمية: وذلك التوسُّل به أنّهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو لهم،
ويدعون معه، ويتوسّلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك: أنّ رجلاً
دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل
رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت الاَموال،
وانقطعت السبل، فادعُ الله لنا أن يُمسكها عنّا.
فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه، ثمَّ قال: «اللّهم حوالينا ولا
علينا، اللّهم على الآكام والضراب وبطون الاَودية ومنابت الشجر»، قال، وأقلعت،
فخرجنا نمشي في الشمس(57).
ذلك كان بعد أن سألوه الاستسقاء، فاستسقى لهم، فسقاهم الله مطراً غزيراً.. روى
البخاري ومسلم: أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً، فقال: يا رسول
الله، هلكت الاَموال
وانقطعت السبل، فادعُ لنا
الله تعالى يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثمَّ قال: «اللّهم
أغثنا، اللّهم أغثنا»،
فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلمّا توسّطت السماء انتشرت، ثمَّ أمطرت، قال: فلا
والله ما رأينا الشمس سبتاً(58).
أي أسبوعاً كاملاً.
وفي سنن أبي داود، عن جبير
بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله
جهدت الاَنفس وضاعت العيال ونهكت الاَموال وهلكت الاَنعام، فاستسق لنا، فإنّا
نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك.
قال صلى الله عليه وآله وسلم : «ويحك،
أتدري ما تقول؟! إنّه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك»(59).
فقد أنكر عليه قوله
«نستشفع بالله عليك» ولم ينكر عليه قوله «نستشفع بك على الله».
وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن أنس بن مالك: جاء أعرابيرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا من صبي يصطبح، ولا بعير ينطّ، وأنشد:
أتـيتك والعــذراء تدمي
لبانـها * وقد شُغـلِت أمُّ الصبيِّ عن الطفلِ
وألقـى بكفّيه الفـتى لاستــكانة * ٍمن الجوع هوناً ما يمرُّ ولا يحـلي
ولا شيء مـمّا يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعَلْهَز الفسلِ
ولـيــس لنـا إلاّ إليـك فرارنا * وأين فرار الناس إلاّ إلى الرســلِ
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجرُّ رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه،
ثمَّ قال: «اللّهم
اسقنا..»
وذكر الدعاء، ثمَّ قال فما ردَّ النبي يده حتى ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل
البطانة يضجّون: الغرق الغرق! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «حوالينا
ولا علينا»
فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالاَكليل، وضحك النبي حتى بدت نواجذه، ثمَّ
قال: «لله درُّ أبي طالب، لو كان حيّاً قرَّت عيناه، مَن يُنشِدنا قوله؟» فقال علي
بن أبي طالب عليه السلام : «يا رسول الله كأنّك تريد قوله:
وأبيضُ يُستسقى الغَمام
بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمةٌ للاَراملِ
يطوف به الهُلاّك من آل هاشمٍ * فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ
كذبتم وبيت الله نُبزى محمّداً * ولمّـا نُـطاعِن دونه ونُناضِلِ
ونُسْلِمَهُ حتى نُـصرَّع دونه * ونـذهل عـن أبـنائنا والحلائلِ
فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم : «أجل»
فقام رجل من كنانة، رضي الله تعالى عنه، فقال:
لك الحمد والحمد
ممّن شكر * سقينا بوجه النبيِّ المطرإلى قوله:
فكان كما قال عمُّه
* أبو طالبٍ أبيض ذو غرر
فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم : «إن يك شاعرٌ أحسن فقد أحسنت»(60).
وقال ابن تيمية: وفي الصحيح أنّ عبدالله بن عمر قال: إنّي لاَذكر قول أبي طالب في
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
وأبيض يُستسقى
الغمام بوجهه * ثمالُ اليتامى عصمةٌ للاَراملِ(61)
وهذا ممّا لا خلاف فيه.
8) التوسُّل بالاَنبياء والصالحين
وفي هذا
القسم من التوسُّل أقسام، هي:
أ
ـ التوسُّل بدعائهم في حياتهم؛ وقد تقدّم في الفقرة السابقة.
ب
ـ التوسُّل بهم في حياتهم.
ج
ـ التوسُّل بهم وبدعائهم بعد موتهم.
والقسمان الاَخيران (ب، ج) ممّا وقع فيه الكلام الذي يستدعي مزيداً من النقد
والمطارحة، لذا فقد أفردنا له الفصل الآتي، مستوعبين خلاله الشبهات المثارة حول
هذين القسمين من التوسُّل وردودها.
_________________
(1)
خرّجه الحافظ العراقي في ذيل (إحياء علوم الدين) عن النسائي في «اليوم والليلة»|
1444 من حديث علي (ع) ـ الغزالي| إحياء علوم الدين 1 : 554.
(2) سورة غافر: 40|60.
(3) سورة البقرة: 2|186.
(4) صحيح مسلم |2739 من حديث ابن عمر. كذا خرّجه العراقي في ذيل (إحياء علوم الدين)
1 : 546.
(5)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 32.
(6)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 10.
(7)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 16.
(8)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 20.
(9)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 48.
(10)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 49.
(11)
سورة الاَعراف: 7|180.
(12)
الشيخ الصدوق| التوحيد: 195|9.
(13)
أخرجهما ابن تيمية في كتابه زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور :47 ـ 48.
(14)
مسند أحمد 1|391، وابن تيمية| المصدر السابق :48 ـ 49.
(15)
الجامع الصحيح للترمذي 5 : 515|3475.
(16)
المصدر اسابق |3544.
(17)
المستدرك 1 : 400|985.
(18)
كنز العمال |3217 و3877.
(19)
الدر المنثور 4 : 9.
(20)
كنز العمال |3782.
(21)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 50.
(22)
مصباح المتهجّد| للشيخ الطوسي :374.
(23)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 16.
(24)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 31.
(25)
مسند أحمد 1 : 96، 6 : 201.
(26)
سنن أبي داود |5052.
(27)
الكافي 2 : 351|1.
(28)
بحار الاَنوار 93 : 312.
(29)
كفاية الاَثر :29.
(30)
مجمع الزوائد 10 : 160 وقال: رواه الطبراني في (الاَوسط) ورجاله ثقات.
(31)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 13.
(32)
مسند أحمد 4 : 445.
(33)
نهج البلاغة، الخطبة 176، ص260 ـ تحقيق صبحي الصالح.
(34)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 42.
(35)
الاِقبال| لابن طاووس :41.
(36)
مسند أحمد |22219.
(37)
مسند أحمد |6637.
(38)
نهج البلاغة| الخطبة 176.
(39)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 44، وله تتمة تأتي في محلِّها.
(40)
سورة البقرة: 2|127 ـ 128.
(41)
الفِرْق: القسم من الشيء إذا انفصل عنه.
(42)
أي يتصايحون من الجوع.
(43)
صحيح البخاري 4 : 173 ـ كتاب الاَنبياء، الباب 53.
(44)
سورة الكهف: 18|9.
(45)
مجمع البيان 6 : 697 ـ 698.
(46)
سورة آل عمران: 3|16.
(47)
سنن الترمذي |3475.
(48)
الترغيب والترهيب| للمنذري 2 : 485.
(49)
الصحيفة السجّادية| الدعاء 49.
(50)
أخرجه مالك في (الموطأ) والبخاري ومسلم في الصحيحين، أنظر: سير أعلام النبلاء 2 :
313، 4 : 420.
(51)
مسند أحمد 5:195.
(52)
صحيح مسلم |2542.
(53)
انظر: سير أعلام النبلاء 4 : 20 ـ 32.
(54)
سير أعلام النبلاء 4 : 32، تاريخ الاِسلام 2 : 174، 175.
(55)
سورة النساء: 4|64.
(56)
سورة المنافقون: 63|5.
(57)
زيارة القبور :41 ـ 42.
(58)
صحيح البخاري| كتاب الاِستسقاء، باب 643، صحيح مسلم| كتاب صلاة الاِستسقاء.
(59)
سنن أبي داود 4 : 232 ـ كتاب السنّة.
(60)
دلائل النبوة 6 : 140 ـ 142، شفاء السقام :170 ـ 171.
(61)
زيارة القبور :42.
|