السعي لبناء قبور البقيع

هدم القبور الطاهرة

رسول الله (ص) يزور البقيع

الدفن في البقيع

الدفن في البقيع

كان أهل المدينة المنورة على ساكنها السلام يدفنون موتاهم منذ زمان النبي (صلى الله عليه وآله) في البقيع وأحياناً كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعلم على قبر المدفون بعلامة. وما أن تم دفن أئمة الهدى (عليهم السلام) فيها حتى بنيت على قبورهم القباب كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان في مكة والمدينة وغيرها من البلدان الإسلامية.

قال ابن سيده: وبقيع الغرقد مقابر بالمدينة وربما قيل له الغرقد، قال زهير:

لمن الديـــــار غشيتها بالغـــرقـــــــد            كالوحي في حجر المسيل المخلد(1)

وقيل: كان البقيع مقبرة قبل الإسلام، وورد ذكره في مرثية عمرو بن النعمان البياضي لقومه

أين الذين عهدتهم فـي غبـطـة                   بين العقيق إلى بقيع الغــرقــد

إلا أنه بعد الإسلام خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط، وكان اليهود يدفنون موتاهم في مكان آخر يعرف بـ (حش كوكب) وهو بستان يقع جنوب شرقي البقيع.

أول من دفن في البقيع

في بعض المصادر التاريخية: إن البقيع كان بستانا يحوي أشجارا من العوسج، وأول من دفن فيه من المسلمين هو أسعد بن زرارة الأنصاري وكان من الأنصار.

ثم دفن بعده الصحابي الجليل عثمان بن مظعون، وهو أول من دفن فيه من المسلمين المهاجرين، وقد شارك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه في دفنه.

ثم دفن إلى جانبه إبراهيم بن الرسول (صلى الله عليه وآله) ولذلك رغب المسلمون فيها وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن.

جاء في كتاب البقيع الغرقد:

ابتدئ الدفن في جنة البقيع منذ زمان النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وأحياناً كان الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفسه يعلّم على قبر المدفون بعلامة.

ثم بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل المؤمنين وبأمر من العلماء.

كما كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحولهما.

وقد تلقى جميع المسلمين بكل حفاوة وترحاب هذه الظاهرة الشرعية لا في المدينتين وأطرافها فحسب، بل في سائر بلاد الإسلام كالهند بما فيها الباكستان وبنغلادش، وكذا العراق وإيران ومصر وسوريا وإندونيسيا وغيرها.

إلى أن هدم الوهابيون أكثرها في الحجاز منذ مأتي سنة، ثم استرجعها سائر المسلمين، وبعد زهاء ثمانين سنة استولى الوهابيون على البلدين المقدسين مرة ثانية وهدموا القباب وأحرقوا المكتبات! وكانت فيها كتب ثمينة جداً .. ولو كان دأب الوهابيين أو كان إيحاء من الخارج إليهم بهدم المساجد لهدموها أيضاً.

كما أنهم أرادوا هدم قبة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) لكن تظاهر المسلمون في الهند ومصر ولعل غيرهما أيضاً، أوقفهم عن ذلك في قصة معروفة، وهم يحنّون إلى ذلك إلى الآن، حتى أن عالمهم (بن باز)(2) لا يزور مسجد الرسول(صلى الله عليه وآله) قائلاً: ما دام هذا الصنم (أي قبة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ هناك لا أزوره، لكن الزمان مرّ عليه ولا يأبه بكلامه أحد(3).

بقيع العمات والزقاق الفاصل

عند باب البقيع الغربي الشمالي، على بعد 15 متراً تقريباً من باب البقيع يوجد قبرا صفية وعاتكة عمّتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان يسمى هذا البقيع بـ (بقيع العمات) وكان مفصولاً عن بقيع الغرقد الكبير ثم أُلحق به في العهد السعودي، ومساحة بقيع العمات 3493 متراً. وكان يوجد زقاق بين البقيع الكبير وبقيع العمات يتجه شرقاً ومساحة هذا الزقاق 824 متراً، وفي سنة 1373 هـ ضمت البلدية هذا الزقاق إلى بقيع الغرقد الكبير بإزالة الجدار الفاصل، كما ضمت مثلث من الأرض الذي يقع في شمال البقيع.

وصف محمد بن أحمد بن جبير (580هـ):(6)

وبقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع، وأول ما تلقى عن يسارك عند خروجك، من الباب المذكور، مشهد صفية عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم الزبير بن العوام، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء.

وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه قبة بيضاء، وعلى اليمين منها تربة ابنٍ لعمر بن الخطاب، اسمه عبد الرحمن الأوسط، وهو المعروف بأبي شحمة، وهو الذي جلده أبوه الحدّ، فمرض ومات.

وبازائه قبر عقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر.

وبازائهم روضة فيها أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبازائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي (عليه السلام) وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه، ورأس الحسن إلى رجلي العباس، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مُغَشّيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة، وأجمل منظر.

وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

وصف محمد بن أحمد المطري (ت741هـ) (7)

... ومع الحسن (عليه السلام) ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين وابنه الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق (عليهم السلام) وعليهم قبة عالية البناء، بناها الخليفة الناصر أبو العباس أحمد بن المستضيء.

ثم قبر عقيل بن أبي طالب ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعليهم قبة، والمنقول أنّ قبر عقيل في داره.

ثم قبر إبراهيم بن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه قبة فيها شبّاك من جهة القبلة، وهو مدفون عند جنب عثمان بن مظعون ، كما ورد في الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين مات إبراهيم عليه السلام أنهم قالوا: أين نحفر له؟ قال: عند فرطنا عثمان.

وفي قبة عقيل حظير مبني بالحجارة يقال فيه قبور أزواج رسول الله )صلى الله عليه وآله وسلم) فيسلم عليهن هناك.

ثم قبر أم الزبير صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها على يسار الخارج من باب المدينة، ويقال أنّها دُفنت عند موضع الوضوء، عند دار المغيرة ابن شعبة، وعليها بناء من حجارة أرادوا أن يعقدوا عليه قبة صغيرة فلم يتفق ذلك لقربها من السور والباب.

ثم قبر إسماعيل بن جعفر الصادق في مشهد كبير مبيض غربي قبة العباس هو ركن سور المدينة من جهة القبلة والشرقي وبابه من داخل المدينة، بناه بعض ملوك مصر العبديين، ويقال إنّ هذه العَرَصَة التي فيها هذا المشهد وما حولها من جهة الشمال إلى الباب هي كانت دار زين العابدين علي بن الحسين (عليهم السلام)، وبين باب الأول وباب المشهد بئر منسوبة إلى زين العابدين، وكذلك بجانب المشهد الغربي مسجد صغير مهجور يقال إنه أيضاً مسجد زين العابدين...

وصف عبد الله بن أبي بكر العياشي (1072 هـ)(8)

فأول ما يلقاك من المشاهد إذا خرجت على باب المدينة المسمى بباب البقيع قبة فيها صفية بنت عبد المطلب على يسارك وأنت ذاهب في الزقاق الذي في وسط البقيع إلى ناحية المشرق. وإن ملت إلى اليمين مع سور المدينة فهناك مسجد صغير قيل إنّ فيه موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين خرج ليستغفر لأهل البقيع، وقيل هو زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي دفن فيها. وفيها كثير من أهل البيت (عليهم السلام).

روى خالد بن عرفجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل، فمرّ بن جعفر بن محمد فقال: أعن أثر وقفت هنا؟ قلت: لا. قال: هذا موقف نبي الله ص بالليل إذا خرج يستغفر لأهل البقيع. قال المراغي: وقد أخبرني غير واحد أنّ الدعاء هناك مستجاب.

فإذا مررت كذاك تحت سور المدينة يميناً إلى أن توازي قريباً من زاوية سور المدينة الذي فيه مشهد السيد إسماعيل فهناك على يسارك القبة الكبيرة الماثلة في الهواء، وفيها مشهد العباس ومشهد الحسن بن علي ومشهد أمه على المشهور، ومشهد زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وكثير من أهل البيت (عليهم السلام). وبين هذا المشهد وزاوية دار عقيل مشاهد متعددة إلى جهة المشرق:

منها: مشهد أمهات المؤمنين يروى أنّ فيه أمهات المؤمنين كلّهن ما عدا خديجة وميمونة، وهو في قبلة المشهد المنسوب لعقيل.

ومنها: المشهد المنسوب لعقيل، وفيه قبر ابن عمه أبي سفيان بن الحارث. روي أنّ عقيل بن أبي طالب رأى أبا سفيان بن الحارث يجول بين المقابر فقال: يا بن عمي مالي أراك هنا؟ قال: أطلب موضع قبري. فأدخله داره، فأمر بقبر فحفر في قاعتها، فقعد عليه أبو سفيان ساعة ثم انصرف، فلم يلبث إلا يومين حتى توفي ودفن فيه.

ومنها مشهد يقال إنّ فيه بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدا فاطمة (عليها السلام)، وهو قرب مشهد عقيل. ولا شك أنّ من مات من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته كان يدفنه قرب عثمان بن مظعون؛ لما ورد في الأحاديث الصحيحة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مات عثمان بن مظعون وضع عند رأسه حَجَراً وقال: "أعلم به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي" وهذا المشهد قريب من ذلك.

ومنها مشهد سيدنا إبراهيم ابن النبي عليه السلام فيه قبره وقبر عثمان بن مظعون. فقد جاء في الحديث أنّ أول من دفنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبقيع عثمان بن مظعون، فلمّا توفي إبراهيم قالوا: يا رسول الله أين نحفر له؟ قال : «عند فرطنا عثمان بن مظعون». وفي الحديث ما يدل على أنّ بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هناك. فقد روى الطبراني عن ابن عباس: لمّا ماتت رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ألحقي بسلفنا عثمان بن مظعون». والثابت في الصحيح أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحضر موت ابنته رقية لغيبته في بدر، وأنه حضر موت ابنتيه أم كلثوم وزينب.

قال السمهودي: وأصل المروي في الطبراني وارد في أحدهما. ثم قال: والظاهر أنهن جميعاً عند عثمان بن مظعون لقوله عليه السلام لما وضع الحجر عند رأس عثمان: «أعلم بن قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي». رواه ابن ماجة والحاكم.

وفي ذلك المشهد أيضاً قبر فاطمة بنت أسد أم علي (عليه السلام) كما حققه السيد.

ومنها مشهد يُنسب لحليمة السعدية مرضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه قبة لطيفة

ومن المشاهد القريبة من البقيع إلا أنّها ليست فيه، مشهد سيدنا إسماعيل بن جعفر الصادق... وهو كبير يقابل مشهد العباس في المغرب، وهو ركن سور المدينة هناك، وبني قبل السور فصار بابه من داخل المدينة، والمسجد الذي بجانب المشهد لزين العابدين، وعرصة المشهد داره، والبئر التي بين الباب الأول والمشهد بئره...

ومنها مشهد على يسارك وأنت مارّ في زقاق البقيع يقال أنه لأبي سعيد الخدري.

 

وصف محمد بن يحيى الولاتي(9):

"مشينا ذات اليمين فدخلنا قبة آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّمنا عليهم، وزرنا فيها عمّه أبا الفضل العباس، وسبطه الحسن، وبنته فاطمة(10)، وزين العابدين بن الحسين، وابنه محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق (عليهم السلام)، وتوسلنا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجاههم وبه إلى الله تعالى، ودعونا كما تقدم.

ثم خرجنا منها فزرنا قبة بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رقية وزينب وأم كلثوم، ووقفنا على باب القبة، وسلّمنا عليهنّ (رض) وتوسلنا بهنّ إلى أبيهنّ نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبه إلى الله عزّ وجلّ في قضاء مآربنا كلّها ودعونا كما تقدم.

ثم زرنا قبة أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقفنا ببابها وسلّمنا عليهنّ كلّهن، وهنّ: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت خزيمة، وزينب بنت جحش، ورملة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وصفية بنت حيي، وتوسّلنا بهنّ كما تقدم.

ثم دخلنا قبة سيدنا إبراهيم ابن نبينا (عليه الصلاة والسلام)، فسلّمنا عليه وعلى الصحابة الذين معه في القبة: عثمان بن مظعون، وعبد الله بن مسعود، وخنيس بن حذافة، وأسعد بن زرارة وتوسّلنا بالجميع كما تقدم.

ثم دخلنا قبة عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر فسلّمنا عليهما وعلى من معهما في القبة من الصحابة كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وتوسّلنا بهم ودعونا كما تقدم...

ثم مشينا إلى قبة حليمة مرضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقفنا بباب القبة وسلّمنا عليها وتوسّلنا بها ودعونا كما تقدم.

ثم زرنا قبة أبي سعيد الخدري وفاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وقبتاهما خارج البقيع من وراء جداره الشرقي(11) ...

ثم رجعنا، فلمّا وصلنا باب البقيع الغربي ملنا ذات اليمين إلى قبة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّمنا عليها وزرناها، وقبتها عن يمين الخارج من باب البقيع الغربي وعلى يسار الداخل.

ودخلنا مسجد أبي بن كعب الذي صلّى فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بين بابي البقيع الغربيين.

ثم رجعنا إلى قبة عقيل فوقفنا على الحجر المنصوب في الحضيرة التي عن يمين القبة الذي يقف عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلاً يزور منه أهل البقيع ويستغفر لهم، والدعاء عنده مستجاب.

ولمّا خرجنا من باب البقيع الغربي زرنا قبر سيدنا إسماعيل بن جعفر الصادق، وسلمنا عليه...

 

 

ورد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع فقال للذي اتبعه: «إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع» فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال: «السلام عيكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها» ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً(4).

وقد وردت روايات شريفة في هذا الباب.

 

 

بعد أن تم سيطرة الوهابيين على تلك البلاد المقدسة قاموا بهدم تلك القباب الطاهرة في البقيع وغيرها، وكان هدم البقيع في الثامن من شوال عام 1344هـ الموافق لـ21 نيسان (إبريل) 1925م.

الوهابيون وهدم البقيع

يعتقد الوهابيون على خلاف جمهور المسلمين أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وأئمة أهل البيت عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله يستحق معظمها القتل وإهدار الدم!.

ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار.. فكانت المجازر التي لم تسلم منها بقعة في العالم الإسلامي طالتها أيديهم، من العراق والشام وحتى البحر العربي جنوبا والأحمر والخليج غربا وشرقا.

ولقد انصب الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين طهرهم الله من الرجس تطهيرا.. وكانت المدينتان المقدستان (مكة والمدينة) ولكثرة ما بهما من آثار دينية، من أكثر المدن تعرضا لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد.

وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وخيرة أصحابه وزوجاته وكبار شخصيات المسلمين.

الهدم الأول عام 1220هـ

كانت الجريمة التي لا تنسى، عند قيام الدولة السعودية الأولى حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع وذلك عام 1220 هـ وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت.

يقول أحد الرحالة الإنجليز حين وصف المدينة المنورة بعد تعميرها بأنها تشبه اسطانبول أو أية مدينة أخرى من المدن الجميلة في العالم، وكان هذا في عام 1877 - 1878م أي قبل تعرض المدينة المباركة لمحنتها الثانية على أيدي الوهابيين العتاة.

الهدم الثاني عام 1344هـ

ثم عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344 هـ وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار (عليهم السلام) وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوى من وعاظهم.

فاصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.

يصف الرحالة الغربي واسمه (ايلدون رتر)، المدينة المنورة بعد الجريمة الثانية التي نفذها الوهابيون عند استيلائهم على المدينة وقتلهم الآلاف من الأبرياء، يقول: (لقد هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدل على قبور آل البيت النبوي.. وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسحقت وهشمت).

العزم على هدم قبر الرسول (ص)

وتشير الوثائق والقرائن إلى أن الوهابيين لم يكتفوا بتلك الجرائم بل حاولوا مرارا هدم قبة الرسول (صلى الله عليه وآله) الا انهم غيروا رأيهم بسبب حدوث ردود فعل إسلامية قوية من مختلف البلدان الإسلامية.

الجريمة كما وصفها الغربيون

يقول الرحالة السويسري لويس بورخارت والذي اعتنق الاسلام وسمى نفسه ابراهيم: (تبدو مقبرة البقيع حقيرة جدا لا تليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها. وقد تكون أقذر واتعس من أية مقبرة موجودة في المدن الشرقية الأخرى التي تضاهي المدينة المنورة في حجمها، فهي تخلوا من اي قبر مشيد تشييدا مناسبا، وتنتشر القبور فيها وهي أكوام غير منتظمة من التراب. يحد كل منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها.. ويعزي تخريب المقبرة الى الوهابيين.

ثم يصف هذا الرحالة قبورة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وقبر العباس (عليه السلام) وعمات النبي (صلى الله عليه وآله) بالقول (فالموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة ومزابل!

أما جبل أحد فيقول عنه هذا الرحالة بأنه وجد المسجد الذي شيد حول قبر حمزة (رض) وغيره من شهداء أحد مثل مصعب بن عمير وجعفر بن شماس وعبد الله بن جحش قد هدمه الوهابيون.. وعلى مسافة وجد قبور اثني عشر صحابيا من شهداء أحد (وقد خرب الوهابيون قبورهم وعبثوا بها).

القبور قبل الهدم(5)

كان البقيع قبل هدمه هكذا:

الأئمة الأربعة (عليهم السلام) في قبة، وتزار فاطمة الزهراء (عليها السلام) في بقعتهم حيث من المحتمل أنها دفنت هناك، وإن كنت أنا رأيت في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) واقفاً في قبره الشريف.. وقال لي وهو يشير إلى ما بين قبره ومنبره: أن قبر فاطمة ابنتي (عليها السلام) هناك، والله العالم بحقيقة الحال.

كما يحتمل أنها (عليها السلام) دفنت في بيتها، ولعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حمل صورة جنازة إلى عدة أماكن، كما حمل الإمام الحسن (عليه السلام) صورة جنازة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى البصرة.

ومن هنا لا بأس بزيارة الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في البقيع، وفي المسجد، وفي بيتها وذلك لخفاء القبر الشريف، وسيظهر إن شاء الله تعالى عند ظهور ولدها الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وإن كان من المحتمل إخفاء قبرها (عليها السلام) إلى يوم القيامة ليبقى سنداً على مظلوميتها طول التاريخ.

وكان في نفس تلك القبة مدفن العباس عمّ النبي(صلى الله عليه وآله).

وكانت خارج القبة بفاصلة قليلة قبةٌ مبنية على بيت الأحزان، حيث كانت الزهراء (عليها السلام) تخرج إلى ذلك المكان وتبكي على أبيها.

وكانت تشتمل مقبرة البقيع على قباب كثيرة، مثل أزواج النبي وأولاده وبناته ومرضعته (صلى الله عليه وآله) حليمة السعدية، وكانت هناك قبة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) والدة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقبة أم البنين(عليها السلام) زوجة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبتها قرب قبة عمات النبي (صلى الله عليه وآله)، وكانت أيضاً قبة جابر بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم مما هو مذكور في التاريخ.

 

 

لقد سعى العديد من العلماء والفقهاء والوجهاء ومختلف المؤمنين وحتى بعض القادة السياسيين لبناء البقيع، كان منهم آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) حيث سعى لبناء قبور أئمة البقيع سعياً جاداً، فأخذ يحاور كبار علماء السنة في المملكة العربية السعودية وأثبت لهم جواز بناء تلك القباب الطاهرة بل رجحانها، وقد خطى في هذا الباب خطوات جيدة حتى أقنعهم بذلك ولكن بعض الموانع حالت دون الوصول إلى هدفه المبارك.

يقول الإمام الشيرازي في كتابه (الأخ الشهيد السيد حسن الشيرازي) تحت عنوان السعي لبناء البقيع:

وكان (رحمه الله) يذهب إلى الحج كل سنة تلبية لنداء الرحمن عزوجل ولأهداف تبليغية عالية، وقد التقى بالسعوديين وضغط عليهم لأجل تعمير البقيع الغرقد ووعدوه بالسماح لتعمير البقيع، وذلك بعد جهد وتعب كثير ومناقشات ومحاورات مع كبار رجالهم وفقهائهم، لكن بعض الجهات في العراق منعت عن ذلك بالمال الكثير والإغراء وما أشبه، وتعاضدها في ذلك الحكومة العراقية..

ويقول آية الله السيد مرتضى القزويني في الاحتفال التأبيني الذي أقيم بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في حسينية الرسول الأعظم (ص) في لندن: وقد قال لي محمد بن سرور الصبان رئيس رابطة العالم الإسلامي أن هذا السور الحالي حول البقيع إنما صار وتم بجهوده المرجع الفقيد السيد الشيرازي و أخيه الشهيد السيد حسن الشيرازي.

 

1 ـ لسان العرب: ج3 ص325 مادة غرقد.

2 ـ الشيخ عبد العزيز بن باز (1330- 1420هـ) مفتي السعودية.

3 ـ البقيع الغرقد، للشيرازي: ص25-26.

4 ـ بحار الأنوار: ج22 ص466 ب1 ضمن ح19.

5 ـ البقيع الغرقد: ص43-44.

6 ـ مقتبس من كتاب: (أضواء على معالم المدينة المنورة وتاريخها) لمؤلفه حسين علي المصطفى ص185، عن رحلة ابن جبير: ص173 – 174.

7 ـ انظر كتاب (أضواء على معالم المدينة المنورة وتاريخها) ص 186-188 عن التعريف بما آنست الهجرة، للمطري: ص41 – 44.

8 ـ انظر كتاب المدينة المنورة في رحلة العياشي: ص 87 – 98، أخذناه من كتاب (أضواء على معالم المدينة المنورة وتاريخها) ص 188-192.

9 ـ مقتبس من كتاب: (أضواء على معالم المدينة المنورة وتاريخها) لمؤلفه حسين علي المصطفى ص192-193، عن كتاب الرحلة الحجازية: ص 190 – 191.

10 ـ لا يخفى أنّ المدفونة في هذه البقعة فاطمة بنت أسد ع، وليست فاطمة الزهراء عليها السلام.

11 ـ الأصح أن قبر فاطمة بنت أسد في البقعة التي دفن فيها  الأئمة المعصومون عليهم السلام.

 

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى