محمد بن الحنفية

(رضوان الله عليه)

محمد الأكبر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1)

هو أبو القاسم محمد الأكبر المعروف بابن الحنفية، من جمع له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين اسمه وكنيته، حيث قال (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام): «أنه سيولد لك ولد سمه باسمي وكنه بكنيتي»(2).

 

ولادته وبعض فضائله:

ولد محمد بن الحنفية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو من الطبقة الأولى من التابعين، كان من أفاضل أهل البيت (عليهم السلام)، وروى عن أبيه (عليه السلام) وحدث عنه بنوه(3).

وكان سيد المحامدة، ومن أفضل ولد أمير المؤمنين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام)، وقد اجتمعت فيه محاسن كثيرة لم تجتمع لأحد من العرب، وهي الشجاعة، وقوة البطش، والزهد، والعلم بجميع فنونه حتى العلم بالمغيبات، وليست علوم المغيبات التي عنده لضرب من الكهانة والتنجيم، بل هي إفاضات إلهية، أفاضها على باب مدينة العلم الإمام علي (عليه السلام)، وورثها منه الحسنان (عليهما السلام)، فعلّما محمداً قسطاً منها.

روي أنه مرّ زيد بن علي زين العابدين (عليه السلام) بمحمد بن الحنفية، فنظر إليه وقال: أعيذك بالله أن تكون زيد بن علي المصلوب بالعراق، فكان كما قال(4).

وكان لمحمد مع ذلك رئاسة وشرف، وكان المنظور إليه بعد الإمام زين العابدين (عليه السلام) عند ملوك ذاك العصر، ولذلك آذوه وجرعوه المر الزعاق.

جاء عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ويتوعده ويحلف ليبعثن إليه مائة ألف في البر ومائة ألف في البحر أو يؤدي إليه الجزية، فكتب عبد الملك إلى الحجاج وكان بالحجاز، توعد محمد بن الحنفية بالقتل وأخبرني بجوابه، وكان عبد الملك قد خاف خوفاً عظيماً فلما وصل كتابه إلى الحجاج كتب إلى محمد يتواعده، فكتب محمد إلى الحجاج، أما بعد فإن لله تعالى في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى خلقه، وأنا أرجو أن ينظر إليّ نظرة يمنعني منك.

فكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى ملك الروم بذلك، فكتب إليه ملك الروم مالك ولهذا الكلام ما خرج منك ولا من أهل بيتك وإنما خرج من بيت النبوّة.

وأم محمد هي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبد الله بن ثعلبة ابن الدؤول بن حنفية بن لحيم، وأمها بنت عمرو بن أرقم الحنفي(5).

وروي أنها سبيت أيام أبي بكر وأن خالد بن الوليد قاتل أهلها(6)، وقيل إنه جاء البعض فطرح عليها ثوبه طلباً للاختصاص بها، فصاحت لا يملكني إلا من يخبرني بالرؤيا التي رأتها أمي وعن اللوح الذي كتبت فيه الرؤيا وما قالته لي، فعجزوا عن معرفته إلا أمير المؤمنين أوضح لها في ملأ من المسلمين أمراً غيبياً عجب منه الحاضرون، فعندها قالت: من أجلك سبينا ولحبك أصابنا ما أصابنا.

أقول: لم تكن الحنفية سبية على الحقيقة، ولم يستبحها أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسبي، بل كانت مسلمة مالكة أمرها فتزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأن الردّة المزعومة لا توجب أحكام الكفر فليس فيها خروج على ربقة الإسلام.

وقد كان رآها النبي(صلى الله عليه وآله) في يوم وضحك وقال: «يا علي أما أنك تتزوجها من بعدي فتلد لك غلاماً فسمه باسمي وكنه بكنيتي»(7).

 

ورعه وتقواه:

وكان محمد بن الحنفية من أورع الناس وأتقاهم بعد أئمة الدين، وكان عالماً، عابداً، متكلماً، فقيهاً، زاهداً، شجاعاً، كريماً، خدم والده الكرّار وأخويه السبطين (عليهم السلام) خدمة صادقة، شهد حروب والده، وأبلى مع أخيه الحسن (عليه السلام) بلاءً حسناً.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): ما تكلم الحسين (عليه السلام) بين يدي الحسن(عليه السلام) إعظاماً له، ولا تكلم محمد بن الحنفية بين يدي الحسين (عليه السلام) إعظاماً له(8).

وكفى في شأن محمد وجلالة قدره ما رواه الكشي عن الإمام الرضا (عليه السلام): «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: تأبى المحامدة أن يعصى الله عزوجل، وهم: محمد بن جعفر، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن حذيفة، ومحمد بن الحنفية»(9).

وهذه شهادة من سيد الأوصياء في حق ولده الكريم محمد، قد أخذت مأخذها من الفضيلة، وأحلت محمداً المحل الرفيع من الدين، وأقلته سنام العز في مستوى الإيمان.

وإن شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه ممن يأبى أن يعصى الله تعرفنا عدم ادعائه الإمامة لنفسه بعد الحسين (عليه السلام)، فإن تسليمه الإمامة للسجاد (عليه السلام) لا يختلف فيه اثنان، واستدعاؤه الإمام للمحاكمة عند الحجر الأسود من أكبر الشواهد على تفننه في تنبيه الناس لمن يجب عليهم الانقياد له، ولإزاحة شكوك الناس في ذلك لما كان يبلغه من ادّعاء الكيسانية الإمامة له، ولكنه تبرأ منهم ومن دعواهم، وكان يرى تقديم زين العابدين (عليه السلام) فرضاً وديناً، كان لا يتحرك بحركة لا يرضى بها (عليه السلام).

روي عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان أبو خالد الكابلي يخدم محمد بن الحنفية دهراً، حتى أتاه ذات يوم فقال له: جعلت فداك إن لي حرمة ومودّة وانقطاعاً، فأسألك بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) إلا أخبرتني أنت الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟ قال: فقال: يا أبا خالد حلفتني بالعظيم، الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عليّ وعليك وعلى كل مسلم(10).

فإنه قد وقى بنفسه نفس ابن أخيه الإمام زين العابدين (عليه السلام) فتصدر للفتيا وانتصب لمراجعة الشيعة، فكان واسطة بين الأمة والإمام، وباباً لهم إليه يرجعون عبره، لعلمه أن الملوك في ذلك الوقت منصرفة أنظارها عن ولد علي (عليه السلام) إلا ذرية الحسين (عليه السلام)، لأنهم استيقنوا أن الإمامة في ولده فمن تصدر منهم للرياسة أو تصدى للفتيا ومراجعة الأمة قتل أو زج في السجن المطبق، فلم يبال محمد بن الحنفية أن يصيبه البلاء إذا أحرز سلامة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وقد أصابه البلاء وصبّ عليه من الجور والظلم من ناحية ابن الزبير حتى أحرق داره وحبس في مكان يقال له: حبس عارم.

 

عدم التحاقه بركب عاشوراء:

ومن هنا يعرف الوجه في عدم التحاقه بأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) في المسير إلى كربلاء، حيث أمره الإمام الحسين (عليه السلام) بالبقاء في المدينة المنورة، مضافاً إلى ما أودع عنده من الودائع والأسرار.

 

وعن الجاحظ أنه قال: وأما محمد بن الحنفية فقد أقرّ الصادر والوارد، والحاضر والبادي أنه كان واحد دهره ورجل عصره، وكان أتم الناس تماماً وكمالاً (11).

وقال الزهري: كان محمد أعقل الناس وأشجعهم معتزلاً عن الفتن وما كان فيه الناس(12).

وصية الإمام الحسن (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية:

وإن كلمة الإمام الحسن السبط (عليه السلام) تدلنا على فضله الشامخ، وورعه الثابت، ونزاهته عن كل دنس، ومعرفته بالإمام الواجب اتباعه، عندما قال له (عليه السلام): «يا محمد بن علي لا أخاف عليك الحسد وإنما وصف الله به الكافرين، فقال تعالى: (كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) (13)، ولم يجعل للشيطان عليك سلطاناً.

يا محمد بن علي ألا أخبرك بما سمعت من أبيك فيك؟

قال: بلى.

فقال: سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمداً.

يا محمد بن علي لو شئت أن أخبرك وأنت في ظهر أبيك لأخبرتك.

يا محمد بن علي أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي عند الله في الكتاب الماضي ووراثة النبي (صلى الله عليه وآله) أصابها في وراثة أبيه وأمه علم الله أنكم خير خلقه، فاصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) علياً، واختارني علي للإمامة، واخترت أنا الحسين.

فقال له محمد بن علي: أنت إمامي، وأنت وسيلتي إلى محمد، والله لوددت أن نفسي ذهبت قبل أن أسمع منك هذا الكلام، ألا وأن في نفسي كلاماً لا تنزفه الدلاء ولا تغيره الرياح كالكتاب المعجم في الرق المنمم أهم بإبدائه، فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل وما جاءت به الرسل، وإنه لكلام يكل به لسان الناطق ويد الكاتب ولا يبلغ فضلك، وكذلك يجزي الله المحسنين ولا قوة إلا بالله. إن الحسين أعلمنا علماً، وأثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) رحماً، كان إماماً فقيهاً قبل أن يخلق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق، ولو علم الله أن أحداً خير منا ما اصطفى محمداً، فلما اختار الله محمداً، واختار محمد علياً، واختارك عليّ، واخترت الحسين بعدك، سلمنا ورضينا بمن هو الرضا وبه نسلم المشكلات(14).

وهذه الوصية تفيدنا عظمة ابن الحنفية من ناحية الإيمان وأنه من عباب العلم ومناجم التقى، فأي رجل يشهد له إمام وقته بأن الله لم يجعل للشيطان عليه سلطاناً، وأنه لا يخشى عليه من ناحية الحسد الذي لا يخلو منه أو من شيء من موجباته أي أحد لم يبلغ درجة الكمال، ثم أي رجل أناط أمير المؤمنين البر به بالبر بنفسه التي يجب على كافة المؤمنين أن يبروا به.

على أن الظاهر من قول الحسن المجتبى (عليه السلام): «أما علمت أن الحسين..» هو أن علم محمد بالإمامة لم يكن بمحض النص المتأخر وإن أكده ذلك، وإنما هو بعلم مخصوص برجالات بيت الوحي، مكنون عندهم بالإحاطة بالكتاب الماضي والقدر الجاري، والاعتراف بحق الإمامين تدلنا على ثباته المستقى من عين صافية وما هي إلا ذلك اللوح المحفوظ.

 

فصاحته وشجاعته:

إنا لا نجد برهان أقوى ولا دليل أدلّ على بلوغه الدرجة العالية في الفصاحة من أنه تربى في بيت الفصاحة ونشأ في دار الإبانة والبيان. ولا خلاف في أن قريشاً أفصح العرب، ونزول القرآن بلسانهم من أقوى الدلائل على بلوغهم الغاية القصوى في الفصاحة، وأن بني هاشم أفصح قريش ولا شاهد أعظم من الوجدان، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أفصح من نطق بالضاد، وعلي (عليه السلام) أمير البلغاء، ثم الحسن والحسين وحمزة وجعفر وغيرهم من بني هاشم مما لا يستريب أحد أنهم أفصح العرب وأبلغ الخطباء، ومحمد بن الحنفية أحد أغصان تلك الشجرة المثمرة وفرع من تلك الدوحة الباسقة، ولو لم يكن له إلا هذه الخطبة الرنانة التي ألقاها يوم صفين في ذلك الجمع الرهيب واليوم العصيب، والموقف الحرج الذي غص فيه البطل المشيح بريقه وأخذ الرعب فيه بمخنقه، فألقاها محمد إلقاء مترسل هادئ، لا يحس رهبة ولا يهجس في نفسه خيفة، فجاء بها محبرة مرشاة بأحسن طراز في أبدع أسلوب قلّ أن تجتمع السلاسة والابتكار والعذوبة والارتجال، لذلك أدهشت عقول السامعين، وأذهلت أفكار المستمعين.

فقد قال الأشتر النخعي لمحمد بن الحنفية يوماً من أيام صفي: قم بين الصفين وامدح أمير المؤمنين (عليه السلام) واذكر مناقبه، فبرز محمد بن الحنفية وأومئ إلى عسكر معاوية وقال:

يا أهل الشام أخسؤوا، يا ذرية النفاق وحشو النار وحصب جهنم، عن البدر الزاهر، والقهر الباهر، والنجم الثاقب، والسنان النافذ، والشهاب المنير، والحسام المبير، والصراط المستقيم، والبحر الخضم العليم.

] من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا[ أوما ترون أي عقبة تقتحمون وأي هضبة ومسنمة علو تتسنمون ] فأنى تؤفكون[ ] بل ينظرون إليك وهم لا يبصرون[ ، أصنو رسول الله تستهدفون، ويعسوب دين الله تلمزون، فأي سبيل رشاد بعد ذلك تسلكون، وأي خرق بعد ذلك ترقعون، هيهات هيهات برز والله وفاز بالسبق وفاز بالفصل، واستولى على الغاية فأحرز قصبها، وفصل الخطاب فانحسرت عنه الأبصار وانقطعت دونه الرقاب، وقرع الذروة العليا التي لا تدرك، وبلغ الغاية القصوى، فعجز من رام رتبته في سعيه فأعياه وعناه الطلب، وفاته المأمول والأرب، ووقف عند شجاعته الشجاع الهمام، وبطل سعي البطل الضرغام فـ ] أنى لهم التناوش من مكان بعيد[ فخفضاً خفضاً ومهلاً مهلاً، أصديق رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنكثون، أم لأخيه تسبون، وذا قربى منه تشتمون، وهو شقيق نسبه إذا نسبوا ونديد هارون إذا مثلوا، وذو قوى كبرها إذا امتحنوا، والمصلي إلى القبلتين إذا انحرفوا، والمشهور له بالإيمان إذا كفروا، والمدعو بخيبر وحنين إذا نكلوا، والمندوب لنبذ عهودهم إذا نكثوا، والمخلف على الفراش ليلة الهجرة إذا جبنوا، والثابت يوم أحد إذا هربوا، والمستودع للأسرار ساعة الوداع إذا حجبوا.

هذي المكارم لا قصبان من لبن               شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

وكيف يكون بعيداً من كل سناً وسهو وثناء وعلو، وقد نجله ورسول الله أبوه وأنجبت بينهما جدود ورضعا بلبان، ودرجا في سنن، وتفيأ بشجرة، وتفرعا من أكرم أصل، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) للرسالة وأمير المؤمنين (عليه السلام) للخلافة، رتق الله به فتق الإسلام حتى انجابت طخية الريب وقمع نخوة النفاق حتى ارفأن جيشانه وطمس رسم الجاهلية، وخلع ربقة الصعار والذلة، وكفت الملة الوجاء ورفق شربها وحلاها عن وردها واطئاً كواهلها، آخذاً بأكظامها، يقرع هاماتها ويرخصها عن مال الله حتى كلمها الخشاش وعضها الثقاف، ونالها فرض الكتاب، فجرجرت جرجرة العود الموقع فرادها وقراً، فلفظته أفواهها وأزلقته بأبصارها ونبت عن ذكره أسماعها، فكان لها كالسم المقر والزعاف المزعف، لا يأخذه في الله لومة لائم، ولا يزيله عن الحق تهيب متهدد، ولا يحيله عن الصدق ترهب متوعد، فلم يزل كذلك حتى أقشعت غيابة الشرك وخنع طيخ الإفك وزالت قحم الإشراك فيه حتى تنستم روح النصفة وقطعتم قسم السوء بعد أن كنتم لوكة الأكل ومذقة الشارب وقبة العجلان بسياسة مأمون الحرفة مكتمل الحنكة، طب بأدوائكم قمنا بدوائكم، مثقفاً لأودكم، تالثاً بحوزتكم، حامياً لقاصيكم ودانيكم، يقتات بالجينة ويرد الخميس ويلبس الهدم، ثم إذا سبرت الرجال وطاح الوشيط واستلم المشيح وغمغمت الأصوات وقلصت الشفاه وقامت الحرب على ساق وخطر فينقها وهدرت شقاشقها وجمعت قطريها وسالت بإبراق الفي أمير المؤمنين هنالك مثبتاً لقطبها، مديراً لرحاها، قادحاً بزندها، مورياً لهبها، مذكياً جمرها، دلافاً إلى البهم، ضراباً للقلل، غصاباً للمهج، تراكاً للسلب، خواضاً لغمرات الموت، مثكل أمهات موتهم، أطفال مشتت آلاف قطاع، أقران طافياً عن الجولة، راكداً في الغمرة، يهتف بأولاها فتنكف أخراها، فتارة يطويها كطي الصحيفة وآونة يفرقها تفرق الوفرة.

فأي آلاء أمير المؤمنين تمترون، وعلى أي أمر مثل حديثه تأثرون، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون(15).

فلم يبق في الفريقين إلا من اعترف بفضل محمد.

 

تأدبه ومعرفته:

وناهيك عن بلاغته المزيجة بالشجاعة وكلامه عندما قيل له: إن أباك يسمح بك في الحرب ويشحّ بالحسن والحسين (عليهما السلام)، فقال محمد بن الحنفية: هما عيناه وأنا يده، والإنسان يقي عينه بيده.

وقال مرة أخرى وقد قيل له ذلك: أنا ولده وهما ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) (16).

ولبسالته المعلومة وموقفه من الحق أنزله أبوه يوم معركة (الجمل) منزلة يده، فكان يخوض الغمرات أمامه ويمضي عند مشتبك الحرب قدماً، ويظهر من شجاعته لمن تأمل في ما كتب أهل السير في حرب الجمل وصفين، فكان محمد بن الحنفية صاحب راية أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه.

روي أن أباه علياً (عليه السلام) اشترى درعاً، فلما استطالها أراد أن يقطع منها، فقال محمد: يا أبه علّم موضع القطع، فعلم على موضع منها، فقبض محمد بيده اليمنى على ذيلها والأخرى على موضع العلامة ثم جذبها فقطع من الموضع الذي حده أبوه. وكان عبد الله بن الزبير مع تقدمه في الشجاعة يحسده على قوته، وإذا حدّث بهذا الحديث غضب(17).

 

علمه وفقهه:

بالإضافة لما تميز به من الشجاعة والبلاغة كان محمد بن فطاحل العلماء وجهابذة الفقهاء، وأنه المشار إليه بالفضيلة في سائر العلوم الدينية والأدبية كالفقه والحديث والتفسير وسائر علوم الأدب، وكان من عظماء المجتهدين له رأي منفرد وفتيا مشهورة، وكان أحد حملة العلم المغيب بما اقتبسه من أبيه وأخويه الحسن والحسين (عليهم السلام)، وقد أكثر من رواية الحديث عنهم (عليهم السلام)، وعن جابر وغيرهم من الصحابة. وروى عنه أئمة الحديث من السنة والشيعة(18).

 

من أقواله وحكمه:

عن زر بن حنيش قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول: (فينا ست خصال لم تكن في أحد ممن قبلنا ولا تكون في أحد بعدنا: منا محمد سيد المرسلين، وعلي سيد الوصيين، وحمزة سيد الشهداء، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وجعفر بن أبي طالب المزين بالجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، ومهدي هذه الأمة الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم (عليه السلام) (19).

وقال رجل لابن الحنفية وهو بالشام: أعلي أفضل أم عثمان؟ فقال: اعفني، فلم يعفه، فقال: أنت شبيه فرعون حين سأل موسى، فقال: (ما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب..)(20)، فصاح الناس بالشامي: يا شبيه فرعون، حتى هرب إلى مصر(21).

ومن أقواله أيضاً:

قال (رض): (الكمال في ثلاث: العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التقدير للمعيشة)(22).

قال (رض): (ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً حتى يجعل الله في أمره فرجاً ومخرجاً).

قال (رض): (إن الله جعل الجنة ثمناً لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها).

قال (رض): (كل ما لا ينبغي به وجه الله فهو مضمحل).

قال (رض): (من كرمت نفسه عليه هانت الدنيا في عينيه)(23).

 

من خطبه:

كان عبد الله بن الزبير يبغض علياً (عليه السلام) وينقصه وينال من عرضه، روى عمر بن شبه، عن سعيد بن جبير قال: خطب ـ عبد الله بن الزبير ـ فنال من علي (ع) فبلغ ذلك محمد بن الحنفية، فجاء إليه وهو يخطب فوضع له كرسي، فقطع عليه خطبته وقال:

(يا معشر العرب شاهت الوجوه، أينتقص علي (عليه السلام) وأنتم حضور، إن علياً (عليه السلام) كان يد الله على أعداء الله، وصاعقة من أمره، أرسله على الكافرين والجاحدين لحقه فقتلهم بكفرهم، فشنؤوه وأبغضوه وأضمروا له السيف والحسد وابن عمه (صلى الله عليه وآله) بعد حي، فلما نقله الله إلى جواره وأحب له ما عنده أظهرت رجال أحقادها وشفت أضغانها، فمنهم من ابتزه حقه، ومنهم من أتمر به ليقتله، ومنهم من شتمه وقذفه بالأباطيل، فإن يكن لذريته وناصري عترته دولة تنشر عظامهم وتحضر أجسادهم والأبدان يومئذٍ بالية بعد أن تقتل الأحياء منهم وتذل رقابهم، فيكون الله عزّ اسمه قد عذبهم بأيدينا وأخزاهم ونصرنا عليهم وشفى صدورنا منهم، وإنه والله ما يشتم علياً (عليه السلام) إلا كافر يسر شتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخاف أن يبوح به فيكني بشتم علي (عليه السلام)، أما أنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره وسمع قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ] وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون[ (24).

فعاد ـ ابن الزبير ـ إلى خطبته وقال: عذرت بني الفواطم يتكلمون فما بال ابن أم حنيفة.

فقال محمد: يا بن أم رومان ومالي لا أتكلم، وهل فاتني من الفواطم إلا واحدة ولم يفتني فخرها، لأنها أم أخوي، أنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم كافلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقائمة مقام أمه، والله لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظماً إلا هشمته ثم قام وخرج(25).

وقد اقتبس ابن الزبير كلامه من خالته عائشة عند دفن الحسن (عليه السلام) عندما قام محمد بن الحنفية وقال: يا عائشة يوم على جمل ويوم على بغل فما تملكين نفسك عداوة لبني هاشم؟

فأقبلت عليه وقالت: يا بن الحنفية: هؤلاء أبناء الفواطم يتكلمون فما كلامك أنت؟

فقال لها الحسين (عليه السلام): وأنت تبعدين ـ محمداً ـ من الفواطم؟

فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم (فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمر بن مخزوم، وفاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي، وفاطة بنت أسد بن هاشم ـ.

فقالت عائشة للحسين (عليه السلام): نحّوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون.

فمضى الحسين (عليه السلام) إلى قبر أمه ثم أخرج الإمام الحسن(عليه السلام) فدفنه بالبقيع(26).

 

وفاته وموضع قبره:

وكانت وفاة محمد بن الحنفية سنة إحدى وثمانين، وله من العمر خمس وستون سنة(27)، فتكون ولادته سنة ستة عشر للهجرة.

وقد روى عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: أنا دفنت عمي محمد بن الحنفية، ونفضت يدي من تراب قبره(28).

واختلف في مدفنه لكن أشهر الأقوال أنه دفن بالطائف(29).

وذكر في معجم البلدان: أن أهل جزيرة خارك التي هي في وسط البحر الفارسي يزعمون أن بها قبر محمد بن الحنفية، يقول الحموي: وقد زرت هذا القبر فيها، ولكن التواريخ لم تثبته(30).

 

أولاده:

كان لمحمد بن الحنفية أربعة عشرين ولداً، أربعة عشر منهم ذكوراً وعشر بنات، وعقبه من ابنيه علي وجعفر، وقد قتل جعفر في يوم الحرّة على يد جيش مسرف بن عقبة الذي قتل أهل المدينة وفتك بهم بأمر يزيد بن معاوية(31).

وينتهي أكثر عقبه إلى رأس المذري عبد الله بن جعفر الثاني بن عبد الله بن جعفر بن محمد بن الحنفية، ومنهم الشريف النقيب أبو الحسن أحمد بن القاسم بن محمد العويد بن علي بن رأس المذري.

وكان ابنه أبو محمد الحسن بن أحمد سيداً جليلاً، وكان نائب السيد المرتضى في أمر نقابة بغداد، وله عقب من أهل العلم والفضل والرواية، ومعروفون ببني النقيب المحمدي، لكنهم انقرضوا.

ومنهم جعفر الثالث بن رأس المذري وعقبه من أولاده زيد، وعلي، وموسى، وعبد الله، وجاء من بني علي بن جعفر الثالث أبو علي المحمدي بالبصرة، وهو الحسن بن الحسين بن العباس بن علي بن جعفر الثالث وكان صديق العمري، ونقل عن أبي نصر البخاري أنه قال: ينتهي نسب المحمدية الصحيح إلى زيد الطويل بن جعفر بن عبد الله بن جعفر، وإسحاق بن عبد الله رأس المذري، ومحمد بن علي بن عبد الله رأس المذري(32).

وجاء من بني محمد بن علي بن إسحاق بن رأس المذري السيد الثقة أبو عباس عقيل بن الحسين بن محمد المذكور الذي كان فقيهاً محدثاً راوياً، وله كتاب الصلاة ومناسك الحج والأمالي، وقد قرأ عليه الشيخ عبد الرحمن المفيد النيسابوري، وله أعقاب بناحية أصفهان وفارس.

ومن جملة أولاد رأس المذري القاسم بن عبد الله رأس المذري الفاضل المحدث، وابنه الشريف أبو محمد عبد الله بن القاسم(33).

أما أولاد علي بن محمد بن الحنفية، فمنهم أبو محمد الحسن بن علي المذكور، وهو رجل عالم فاضل، زعمت الكيسانية إمامته، ثم وصى إلى ابنه علي فجعلته الكيسانية إماماً أيضاً بعد أبيه(34).

وأما أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية فهو إمام الكيسانية وانتقلت البيعة منه إلى بني العباس، وانقرض نسله(35).

قال أبو نصر البخاري: إن المحمدية بقزوين الرؤساء، وبقم العلماء، وبالري السادة(36).

 

---------------------------------------------

1 ـ أخذنا هذه الترجمة من كتاب تنوير الأمة بأولاد الأئمة (عليهم السلام) لمؤلفه الخطيب الشيخ علي حيدر المؤيد.

2 ـ المجدي: ص196، وتذكرة الخواص: ص292، صفوة الصفوة: ج2 ص77.

3 ـ انظر طبقات ابن سعد: ج5 ص91، وحلية الأولياء: ج3 ص174، تهذيب الأسماء واللغات: ج1 ص1 وص88، وشذرات الذهب: ج1 ص88، سير أعلام النبلاء: ج4 ص110، تهذيب التهذيب: ج9 ص354، رجال الكشي: ص87.

4 ـ راجع الخطط المقريزية: ج2 ص320، ونور الأبصار: ص115، تقريب التهذيب: ص497 الرقم 6157.

5 ـ المجدي في الأنساب: ص195، عمدة الطالب: ص389.

6 ـ أعيان الشيعة: المجلد السادس ص360.

7 ـ المصدر نفسه.

8 ـ المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص169.

9 ـ رجال الكشي: ص47.

10 ـ راجع رجال الكشي: ص79 و80، ومناقب ابن شهر آشوب: ج2 ص249.

11 ـ انظر تذكرة الخواص: ص295.

12 ـ عيون الأخبار لابن قتيبة: ج1 ص111، تذكرة الخواص: ص293.

13 ـ سورة البقرة: الآية 109.

14 ـ إعلام الورى: ج1 ص422.

15 ـ راجع مناقب الخوارزمي: ص134، تذكرة الخواص: ص296، مروج الذهب: ج2 ص366.

16 ـ كشف الغمة: ج2 ص67، المستطرف في طبقات الشجعان للايشهي: ج1 ص204.

17 ـ راجع الكامل للمبرد: ج2 ص89.

18 ـ راجع الوفيات لابن خلكان: ج2 ص21.

19 ـ الخصال: ج1 ص320، باب الستة.

20 ـ سورة طه: الآيات 51 و52.

21 ـ أنساب الأشراف للبلاذري: ج2 ص464.

22 ـ أنساب الأشراف للبلاذري: ج2 ص463.

23 ـ حلية الأولياء: ج3 ص162 و175، نور الأبصار: ص115، تذكرة الخواص: ص295.

24 ـ سورة الشعراء: الآية 227.

25 ـ نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4 ص358.

26 ـ كشف الغمة: ج2 ص212، الكافي: ج1 ص240 ضمن حديث 3، إعلام الورى: ج1 ص415.

27 ـ راجع البداية لابن كثير: ج9 ص38، وتذكرة الخواص: ص299، ودول الإسلام للذهبي: ص48.

28 ـ زينب الكبرى للعلامة النقدي: ص25، رجال الكشي: ص270.

29 ـ راجع المعارف لابن قتيبة: ص95.

30 ـ معجم البلدان: ج3 ص387.

31 ـ عمدة الطالب لابن عتبة: ص390.

32 ـ سرّ السلسلة العلوية: ص87.

33 ـ عمدة الطالب: ص392.

34 ـ عمدة الطالب: ص393.

35 ـ عمدة الطالب: ص390، أنساب الأشراف للبلاذري: ج2 ص465.

36 ـ سرّ السلسلة العلوية: ص86.

 

 

الصفحة الرئيسية

للأعلى