ملاحظة
لقد اقتبسنا من هذا الكتاب الضخم الصفحات اللصيقة الصلة بموضوع الموقع،
ونقلناها نصاً من دون تصرف، وأشرنا إلى صفحات النسخة الأصلية. کما ان
هذا الموقع يعنى بالبقيع ويسعى لنقل كل معلومة
عنه، وكل ما كتب أو قيل بشأنه _ سلباً أو إيجاباً _ وعرضه بين يدي
المراجعين والباحتين، ومن ثم فإن الموقع لايتبنى بالضرورة كل ما يرد فيه من
آراء وأقوال.
( من صفحة 274 الى 283)
«المشاهد
الاجتماعية»
1ـ بقيع الغرقد:
البقيع المكان الذي به أصول شجر من
أنواع مختلفة، وكان في المدينة المنورة أكثر من مكان يطلق عليه اسم البقيع
غير أنها كانت تتميز بالاسم المضاف إلي الكلمة، فبقيع الغرقد هو مقبرة أهل
المدينة، والغرقد نوع من الشجر ضخم، وهو شجر العوسج، وبقيع الخيل الذي كان
سوقاً تباع فيه الخيل، وكذلك بقيع الزبير.
وأول من دفن بالبقيع من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أبو أمامة أسعد بن زرارة
من الأنصار، وأول من دفن به من المهاجرين عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ
دفنه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وقال: أجعلك إمام المتقين.
فلما توفي إبراهيم ابن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قالوا: يا
رسول الله، أين نحفر له؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون(1).
عند ذلك رغب الناس في أن يدفنوا موتاهم بالبقيع، فقطعوا الشجر الذي فيه،
واتخذت كل قبيلة لنفسها ناحية منه، لتعرف مقابرها(2).
وقد سمي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ المكان الذي دفن فيه عثمان
بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ الروحاء(3) وبلغت جملة من دفن من الصحابة بالبقيع
نحواً من عشرة آلاف صحابي(4).
فضل البقيع:
للبقيع مكانة مميزة في نفس الرسول ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فقد كان
يحرص أن يزوره كثيراً، ويدعو لأهله بالمغفرة والرحمة، ويسلم عليهم.
روي البيهقي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
فوضع ثوبيه، ثم لم يستتم أن قام فلبسهما، فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنه يأتي
بعض صويحباتي.
فخرجت أتبعه، فأدركته بالبقيع بقيع الغرقد يستغفر للمؤمنين والمؤمنات
والشهداء.
وعن أم قيس بنت محصن قالت: لو رأيتني
ورسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ آخذ بيدي في سكة المدينة حتي
انتهي إلي البقيع ـ بقيع الغرقد ـ فقال: يا أم قيس، قلت: لبيك يا رسول الله
وسعديك.
قال: ترين هذه المقبرة؟
قلت: نعم.
قال: يبعث الله يوم القيامة منها سبعين ألفاً علي صورة القمر ليلة البدر،
يدخلون الجنة بغير حساب، البقيع يضيء لأهل السماء كما تضيء الشمس لأهل
الدنيا(5).
وقد ورد أن البقيع ذكر في التوراة بصفته، واسمه فيها (كَفْتَه) روي
السمهودي أن مصعب بن الزبير دخل المدينة من طريق البقيع، ومعه ابن رأس
الجالوت، فسمعه مصعب يقول: هي هي، فدعاه مصعب فقال: ماذا تقول؟ فقال: نجد
هذه المقبرة في التوراة بين حرّتين محفوفة بالنخل، اسمها كفته، يبعث الله
منها سبعين ألفاً علي صورة القمر(6).
موقع البقيع ووصفه:
يقع البقيع شرقي المسجد النبوي الشريف، وهو مقسم ثلاثة أقسام، يدفن في كل
قسم مدة سنة، ثم يدفن في القسم الذي يليه، وبين هذه الأقسام طرقات يسير
فيها الناس حتي لا يطئوا القبور، ويحد كل طريق بسورين قصيرين، ورصفت هذه
الطرق بالإسمنت.
وقد اعتنت الحكومة السعودية بالبقيع عناية تليق به، فأنشأت حوله سوراً
ضخماً مرتفعاً، وجعلت في هذا السور شبابيك واسعة، يري الإنسان من خلالها
المقبرة كلها وهو خارجها، وحصنت هذه الشبابيك بشبك من الحديد حتي لا تتسرب
منه الحيوانات إلي داخل المقبرة، وكذلك جعلت في السور أبواباً من جهاته
المختلفة لتسهيل الدخول والخروج، وجعلت علي أبوابه مظلات يقف تحتها الناس
للعزاء.
وإلي جوار البقيع أقامت الحكومة السعودية بناء خاصاً لتجهيز الموتي، فهناك
يغسلون ويكفنون، ومن هناك يذهب بهم إلي الحرم فيصلي عليهم، ثم يدفنون.
وهذا كله علي نفقة الحكومة، وليس هذا خاصاً بالسعوديين، ولكنه عام لكل من
يموت في المدينة المنورة، وبخاصة الغرباء القادمين للحج والعمرة الذين
يوافيهم الأجل المحتوم في مدينة رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ .
وفي داخل البقيع، وعند الباب الرئيسي له توجد أماكن أعدتها الحكومة يستريح
فيها الناس والضعفاء الذين لا يستطيعون مواصلة السير والوقوف حتي يتم
الدفن.
وليس في البقيع قبور معلمة، ولهذا لا يستطيع أي زائر أن يميز بين القبور،
ولعل الله أراد ذلك للمسلمين حتي يدعو الزائر لجميع أهل المقبرة بغير
تخصيص.
والدعاء الوارد عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأهل القبور هو:
«السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم
لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية»(7) .
ومما يجب ملاحظته أن زيارة القبور مشروعة للرجال، أما النساء فيكره لهن ذلك
ولكن إذا مررن بالقبور فعليهن الدعاء لهم بالرحمة، فقد ورد في حديث طويل عن
السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
قال: إن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل
البقيع فتستغفر لهم.
قالت: قلتُ: فكيف أقول يا رسول الله؟
قال: قولي: السلام علي أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله
المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون(8) .
من دفن بالبقيع من
الصحابة:
عرفنا أن عدد الذين دفنوا في البقيع من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ حوالي
عشرة آلاف، ولكن الذين عرفت قبورهم منهم، وذكرهم المؤرخون بأعيانهم قليلون،
وسنذكر هنا أشهرهم كما ذكرهم المحققون:
1ـ أبو أمامة أسعد بن زرارة: هو أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد الأنصاري
الخزرجي البخاري، وهو من السابقين، شهد بيعتي العقبة، وكان نقيباً علي
قبيلته، وهو أصغر النقباء سناً، وهو ـ رضي الله عنه ـ أول من صلّي
بالمسلمين الجمعة في المدينة.
ومات ـ رضي الله عنه ـ بعد تسعة أشهر من الهجرة، وهو أول من مات من
الصحابة بعد الهجرة، وأول ميت صلّي عليه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ وأول من دفن بالبقيع من الأنصار(9).
2ـ عثمان بن مظعون: ابن حبيب بن وهب بن حذافة الجمحي، من السابقين إلي
الإسلام، وهاجر إلي الحبشة الهجرة الأولي هو ابنه السائب، فلما بلغته إشاعة
إسلام قريش رجع إلي مكة، ودخل في جوار الوليد بن المغيرة، ولما علم بما
يلاقيه إخوانه المسلمون من الاضطهاد علي يد قريش، لم تقبل نفسه أن يعيش
آمناً في جوار الوليد، وإخوانه يعذّبون.
فحينئذ رد علي الوليد جواره، ورضي أن يعيش كما يعيش الرسول ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ والمسلمون. سمع لبيد بن ربيعة الشاعر يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان: صدقت.
قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فقام سفيه من الجالسين فلطمه علي عينه فاخضرت ـ أي مرضت ـ وعثمان بن مظعون
ـ رضي الله عنه ـ هو الذي قال للنبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ : إني رجل
تشق عليّ العزبة في المغازي، فتأذن لي في الخصي فأختصي؟
فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصوم. وتوفي
ـ رضي الله عنه ـ بعد ما شهد غزوة بدر مع رسول الله ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين،
وأول من دفن بالبقيع من المهاجرين(10).
روي الترمذي عن عائشة قالت: قبَّل النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عثمان
بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي، وعيناه تذرفان، ولما دفن وضع عند رأسه حجراً.
3ـ إبراهيم ابن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: ولدته سُرِّيته مارية
القبطية المصرية سنة ثمان من الهجرة في شهر ذي الحجة، وولد في العالية في
مكان يعرف الآن بمشربة أم إبراهيم، والقابلة التي ولد علي يديها هي سلمي
مولاة لرسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ.
ولما وُلد بشر الرسول ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بميلاده، وقال: ولد لي
الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم(11).
وكان ـ عليه السلام ـ أشبه الناس برسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
فقد سئل ابن أبي أوقي، هل رأيت إبراهيم ابن النبي ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ؟ قال: نعم، كان أشبه الناس به، مات وهو صغير.
وقد توفي وهو ابن ثمانية عشر شهراً علي الأرجح، ودخل عليه النبي ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ وهو يجود بنفسه فجعلت عيناه تذرفان، وقال: إن العين تدمع،
والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون(12).
وغسله الفضل بن عباس، ونزل في قبره مع أسامة بن زيد، ورسول الله ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ جالس علي شفير القبر(13) وصلّي عليه النبي ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ وكبر أربع تكبيرات(14) .
ولما أرادوا دفنه قالوا: يا رسول الله، أين نحفر له؟ قال: عند فرطنا عثمان
بن مظعون(15).
ووافق موته أن انكسفت الشمس، فقال قوم: إن الشمس انكسفت لموته، فخطبهم رسول
الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات
الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلي ذكر الله
والصلاة(16).
وفي البخاري فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتي ينجلي(17).
ولما تمّ دفنه، ووضع في اللحد، ورصف عليه اللبن، بصر رسول الله ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ بفرجة من اللبن، فأخذ بيده مدرة وناولها رجلاً فقال: ضعها
في تلك الفرجة.
ثم قال: أما إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر بعين الحي.
ورش النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ علي قبره، وحثا عليه بيده من
التراب، وقال حين فرغ من دفنه عند رأسه: السلام عليكم(18).
وكانت وفاته ـ عليه السلام ـ في شهر ربيع الأول أو في رمضان من السنة
العاشرة من الهجرة(19).
4ـ الحسن بن علي: بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، سبط رسول الله ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ وريحانته، أميرالمؤمنين أبو محمد، ولد في منتصف شهر
رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وهو الأثبت.
وكان ـ رضي الله عنه ـ يشبه جده رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
وقال فيه هو وأخوه الحسين: هذان ابناي، وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما
فأحبهما، وأحب من يحبهما(20) .
ويوم سابعة عن عنه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بكبش، وحلق رأسه،
وأمر أن يتصرف بزنته فضة(21).
وقال فيه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: إن ابني هذا سيد، وعسي
الله أن يبقيه حتي يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فكان ما توقعه ـ
صلي الله عليه وآله وسلم ـ وجري الصلح علي يديه ـ رضي الله عنه ـ مع
معاوية، وتنازل له عن الخلافة، ليحقن دماء المسلمين.
وجلس جماعة من الصحابة يذكرون أشبه الناس برسول الله ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ فدخل عليهم عبد الله بن الزبير فقال: أنا أحدثكم بأشبه أهله به،
وأحبهم إليه، الحسن بن علي، رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته أو قال: ظهره،
فما ينزله حتي يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء وهو راكع، فيفرج له بين
رجليه حتي يخرج من الجانب الآخر(22).
ولما جري الصلح بين الحسن ومعاوية قال له معاوية: قم فاخطب الناس، واذكر ما
كنت فيه، فقام الحسن فخطب فقال: الحمد لله الذي هدي بنا أولكم، وحقن بنا
دماء آخركم، ألا إنّ أكيس الكيس التقي، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر
الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية، إما أن يكون كان أحق به مني،وإما أن يكون
حقي فتركناه لله ولصلاح أمة محمد ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وحقن دمائهم،
قال: ثم التفت إلي معاوية فقال: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلي حين(23).
وعاش ـ رضي الله عنه ـ بعد تنازله لمعاوية عشر سنين، ومات سنة تسع
وأربعين، وقيل سنة خمسين، ويشاع أنه ـ عليه السلام ـ مات مسموماً، وسأله
أخوه الحسين ـ عليه السلام ـ عمن سقاه السم فأبي أن يخبره.
وكانت وفاته بالمدينة المنورة، ودفن بالبقيع. روي الواقدي عن ثعلبة بن أبي
مالك قال: شهدت الحسن يوم مات ودفن بالبقيع، فرأيت البقيع ولو طرحت فيه
إبرة ماوقعت إلاّ علي رأس إنسان(24) .
5ـ خُنيس بن حذافة: بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي، كان من
السابقين، وهاجر إلي الحبشة، ثم هاجر إلي المدينة، وهو ممن شهد بدراً، ويوم
أحد أصيب بجراحة، فكانت سبب موته(25).
وهو زوج السيدة حفصة بنت عمر ـ رضي الله عنهما ـ فلما فلما توفي تزوجها
رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وكانت وفاته بالمدينة، ودفن بالبقيع
عند عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ(26).
6ـ عثمان بن عفان: بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي،
أميرالمؤمنين أبو عبد الله، وأمه أروي بنت كريز، أسلمت وحسن إسلامها، وأمها
البيضاء بنت عبدالمطلب عمة رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ.
ولد بعد عام الفيل بست سنين علي الصحيح، وهو من السابقين الأولين، أسلم علي
يد أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ ولما سئل علي بن أبي طالب عنه قال:
ذاك رجل يدعي في الملأ الأعلي ذا النورين، وذلك لأن الرسول ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ زوجه ابنته رقية، فلما توفيت زوجه ابنته أم كلثوم فسمي ذا
النورين لأنه تزوج ابنتي رسول الله.
شهد له رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بالجنة، وبشره بها، كما بشره
بالشهادة، فهو من العشرة المبشرين بالجنة، وله مواقف عديدة في خدمة الإسلام
والمسلمين منها تجهيز جيش العسرة، وفيه قال الرسول ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم»(27).
ومنها شراء بئر رومة، وتصدق بها علي المسلمين، ومنها ذهابه إلي أهل مكة
مبعوثاً عن رسول الله يوم الحديبية، إلي غير ذلك من المواقف الشهيرة. وهو
أول من هاجر إلي الحبشة، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ هاجر الهجرتين الأولي والثانية، وقال فيهما رسول الله ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ: إنهما لأول من هاجر إلي الله بعد لوط(28).
وتآمر عليه أعداء الإسلام، بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي، وقتلوه وهو
يقرأ القرآن، وكان ذلك في سنة خمس وثلاثين هجرية، يوم الجمعة بعد العصر
ثمانية عشرة من ذي الحجة، وكان عمره اثنتين وثمانين سنة، ودفن في بستان
اسمه حش كوكب، كان قد اشتراه ـ رضي الله عنه ـ ليوسع به البقيع(29).
7ـ عبدالرحمن بن عوف: بن عبد عوف بن عبدالحرث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري
ويكني أبا محمد، هوأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول
الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وهو عنهم راض، وهم الستة الذين رشحهم عمر
ـ رضي الله عنه ـ ليختاروا من بينهم الخليفة، فلما اجتمعوا فوض إليه
المجتمعون أمر اختيار الخليفة، وظل ـ رضي الله عنه ـ يبذل، ويستقصي آراء من
فوضوه، حتي استقر الرأي علي اختيار عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فأعلنه
عبدالرحمن علي ملأ من الصحابة.
ولد عبدالرحمن بعد عام الفيل بعشر سنوات، وأمه الشفاء بنت عوف، وكان اسمه
عبد عمرو في الجاهلية، فلما أسلم سماه الرسول ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
عبدالرحمن، وهو من السابقين الأولين، فقد أسلم قبل أن يدخل الرسول دار
الأرقم(30).
وهاجر الهجرتين إلي الحبشة، ثم هاجر إلي المدينة، وفيها آخي الرسول بينه
وبين سعد بن الربيع، وقال له سعد: هذا مالي فأنا أقاسمكه، ولي زوجتان فأنا
أنزل لك عن إحداهما.
فقال عبدالرحمن: بارك الله لك، ولكن إذا أصبحت فدلوني علي سوقكم، فدلوه،
فخرج فرجع معه بحميت من سمن وأقط قد ربحه ـ(31) والحميت من السمن الخالص غير
المغشوش ـ .
وشهد عبدالرحمن المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ و
بعثه الرسول إلي دومة الجندل ففتحها، وأذن له في أن يتزوج بنت ملكهم الأصبغ
بن ثعلبة الكلبي، فتزوجها وهي تماضر التي أنجب منها ولده أبا سلمة(32).
وكان ـ رضي الله عنه ـ تاجراً ماهراً، يعرف كيف يتعامل في الأسواق، حتي قال
عن نفسه: فلقد رأيتني ولو رفعت حجراً رجوت أن أصيب تحته ذهباً أو فضة(33).
وقال الزهري: تصدق عبدالرحمن بن عوف علي عهد رسول الله ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ بشطر ماله، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل علي خمسمائة
فرس في سبيل الله، وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة(34).
وهو أحد الرجلين اللذين ائتم بهما رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
أما الأول فأبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وعبدالرحمن بن عوف هو الرجل
الثاني، روي المغيرة بن شعبة أن عبدالرحمن بن عوف تقدم وصلّي بالناس ـ وكان
الرسول في حاجته ـ فلما حضر وجد الصلاة قد أقيمت، وصلّي عبدالرحمن بالناس
ركعة، قال: فصلينا الركعة التي أدركنا، وقضينا التي سبقتنا(35).
وقال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حين صلّي خلف عبدالرحمن بن عوف: ما
قبض نبي قط حتي يصلي خلف رجل صالح من أمته .
وتوفي ـ رضي الله عنه ـ سنة اثنتين وثلاثين علي الأصح وعمره حينئذ اثنتان
وسبعون سنة، وكانت وفاته بالمدينة المنورة، ودفن بالبقيع، وصلّي عليه عثمان
بن عفان، وقيل الزبير بن العوام ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وكان قد أوصي
لكل من شهد بدراً بأربعمائة دينار، فكانوا مائة رجل، وأعتق قبل وفاته
ثلاثين ألف نسمة(36).
وذكر ابن سعد أنه أوصي في سبيل الله بخمسين ألف دينار(37).
روي ابن زبالة عن حميد بن عبدالرحمن قال: أرسلت عائشة إلي عبدالرحمن بن عوف
حين نزل به الموت، أن هلم إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وإلي
أخويك.
فقال: ما كنت مضيقاً عليك بيتك، إني كنت عاهدت ابن مظعون أيُّنا مات دفن
إلي جانب صاحبه.
قالت: فمرُّوا به عليَّ، فمروا به عليها فصلت عليه.
وكان من وصيته أنه إذا مات بالمدينة أن يدفن إلي جانب عثمان بن مظعون، فلما
مات دفن هناك(38).
8ـ سعد بن أبي وقاص: الوقّاص في اللغة شبكة يصاد بها الطير، واسم أبي وقاص
مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، وكنيته أبو إسحاق، وأمه
حمنة بنت سفيان بن أمية عبد شمس بن عبد مناف بن قصي(39).
وكان ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعتز بقرابته منه، روي ابن سعد عن جابر
بن عبد الله قال: أقبل سعد ورسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ جالس
فقال: «هذا خالي فليرْبأ أمرأ خالُه»(40).
وفي رواية الترمذي (هذا خالي فليرني امرؤٌ خاله).
وسعد ـ رضي الله عنه ـ من السابقين في الإسلام حتي قال: لقد مكثت سبعة أيام
وإني لثالث الإسلام(41) وقال ـ رضي الله عنه ـ ما أسلم رجل قبلي إلاّ رجل أسلم
في اليوم الذي أسلمت فيه، وعن عائشة بنت سعد قالت: سمعت أبي يقول، وأسلمت
وأنا ابن سبع عشرة سنة(42).
وهو أول من أراق دماً في الإسلام، روي ابن إسحاق أن أصحاب رسول الله ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ كانوا يصلون بمكة مستخفين، فبينا سعد في شعب مع
أصحابه يصلون، إذ رآهم المشركون فعابوا عليهم دينهم وسفهوهم وقاتلوهم، فضرب
سعد رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجه، فكان أول دم أريق في الإسلام.
وشهد مع الرسول ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ المشاهد كلها، وهو أول من رمي بسهم في سبيل الله، وذلك حين خرج في
سرية عبيدة بن الحارث يلقي عير قريش، فتراموا بالسهام، فكان سعد أول من رمي
بسهم في سبيل الله، وقال في ذلك شعراً:
ألا هل جار رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بـها عـــــدوهـم ذيـادا بـكل حــزونـة وبـكل سهــــل
فمــــا يعـتـد رام من معــد بسهـم فــي سبيـل الله قبلـي
(43)
وهو أول من جمع له الرسول ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أبويه، وذلك حين
قال له يوم آحد: ارم سعد فداك أبي وأمي(44) . والرجل الثاني الذي جمع له الرسول
ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أبويه: الزبير بن العوام(45).
وكان ـ رضي الله عنه ـ مستجاب الدعوة، حتي كان الناس يخافون دعوته
ويرجونها، وذلك لأن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ دعا له فقال:
اللهم استجب لسعد إذا دعاك، وفي رواية: اللهم أجب دعوته، وسدد رميته. وهو
من العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتاً.
فلما كانت الفتنة التي وقعت بين المسلمين كان له منها موقف يعتبر نموذجاً
يجب أن يحذو المسلمون حذوه، وذلك أنه اشتري أرضاً مواتاً فاعتزل فيها هو
وأهله، وأمر أهله ألا يخبروه بشيء من خبر الناس حتي تجتمع الأمة علي إمام.
وجاءهم هاشم ابن أخيه عتبة، يخبره بأن أكثر المسلمين يرغبون خلافته،
ويقدمونه علي غيره وقال له: ههنا مائة ألف سيف يرونك أحق بهذا الأمر.
فقال ـ رضي الله عنه ـ : آريد منها سيفاً واحداً إذا ضربت به المؤمن لم
يصنع شيئاً، وإذا ضربت به الكافر قطع(46).
وعند ابن سعد لما قيل له: ما يمنعك من القتال؟
قال: حتي تأتوني بسيف يعرف المؤمن من الكافر(47).
وتوفي ـ رضي الله عنه ـ سنة ست وخمسين من الهجرة علي الأرجح، فلما حضرته
الوفاة طلب جبة له صوف خلقة، وقال: كفنوني فيها، فإني لقيت المشركين فيها
يوم بدر وهي علي، وإنما كنت أخبئها لذلك(48).
ومات بقصره بالعقيق علي عشرة أميال من المدينة، وحُمل علي رقاب الرجال إلي
المدينة، وصلّي عليه مروان بن الحكم أمير المدينة من قبل معاوية، ودفن
بالبقيع(49).
9ـ أبو سعيد الخدري: هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر،
والأبجر هو خدرة الذي نسبه إليه، وهو أنصاري خزرجي.
عرض يوم أحد وكان صغيرا، فلم يكن ضمن المحاربين، وأول مشاهدة مع رسول الله
ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ غزوة الخندق، وعدد غزواته مع رسول الله اثنتا
عشرة غزوة(50).
وكان ـ رضي الله عنه ـ من أفقه أحداث الصحابة، وروي عن رسول الله ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ كثيراً من الأحاديث. روي ابن سعد بن طريق حنظلة بن
سفيان الجمحي عن أشياخه قال: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ أفقه من أبي سعيد الخدري.
وفي يوم الحرة خرج من المدينة، ودخل غاراً، فدخل عليه شامي، فقال: اخرج.
فقال: لا أخرج، وإن تدخل علي أقتلك، فدخل عليه، فوضع أبو سعيد السيف وقال:
بؤ بإثمك.
قال الشامي: أنت أبو سعيد الخدري؟
قال: نعم.
قال: فاستغفر لي(51).
روي الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قتل أبي يوم أحد شهيداً، وتركنا بغير
مال، فأتيت رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أسأله، فحين رآني قال:
من استغني أغناه الله، ومن يستعفف يعفه الله، فرجعت(52).
ولما سمع ـ رضي الله عنه ـ الحديث، لا يمنعن أحدكم مخافةُ الناس أن يتكلم
بالحق إذا رآه أو علمه، قال أبو سعيد: فحملني ذلك علي أن ركبت إلي معاوية،
فملأت أذنيه ثم رجعت(53).
يقول ابن عبدالبر: وكان ممن حفظ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
سنناً كثيرة، وروي عنه علماً جمّاً، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم
وفضلائهم، توفي سنة أربع وسبعين، روي عنه جماعة من الصحابة وجماعة من
التابعين(54).
روي السمهودي عن ابن شبة عن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قال لي أبي:
يا بني إني قد كبرت، وذهب أصحابي، وحان مني، فخذ بيدي، فأخذت بيده حتي جئت
البقيع فجئت أقصي البقيع مكاناً لا يدفن فيه، فقال: يا بني، إذا هلكت فاحفر
لي ههنا، لاتبك عليّ باكية، ولا يضربن عليّ فسطاط، ولا يُمشي معي بنار، ولا
تؤذن أحداً، واسلك بي زقاق عمقة، وليكن مشيك بي خبباً(55).
وفي رواية يقول عبدالرحمن: فيأتني الناس، متي يخرج؟ فأكره أن أخبرهم لما
قال لي، فأخرجته صدر النهار، فأتيت البقيع وقد مليء ناساً .
10ـ عبد الله بن مسعود: بن غافل بن حبيب بن شمْخ بن فأربن مخزوم، وكنيته أبو
عبدالرحمن حالف بني زهرة في الجاهلية، وأمه أم عبد بنت عبدودّ.
ويحدث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن أول لقاء له بالنبي ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ فيقول: كنت غلاماً يافعاً أرعي غنماً لعقبة بن أبي معيط، فجاء
النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وأبوبكر، وقد فرّا من المشركين فقالا:
يا غلام، هل عندك من لبن تسقينا؟
فقلت: إني مؤتمن، ولست ساقيكما.
فقال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: هل عندك من جذعة له ينز عليها
الفحل؟
قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها النبي، ومسح الضرع ودعا فحفّل الضرع ثم
أتاه أبوبكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبوبكر، ثم شربت.
ثم قال للضرع: اقْلِص فقلص.
فأتيته بعد ذلك فقلت: علمني من هذا القول.
قال: إنك غلام معلّم، فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد(56).
وعند ابن عبدالبر أن ابن مسعود لما قال للنبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ:
علمني من هذا القول. مسح رسول الله رأسه وقال: يرحمك الله، فإنك غليم معلم(57)
..
وابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ من السابقين إلي الإسلام، وحدث عن نفسه فقال:
لقد رأيتني سادس ستة، وما علي الأرض مسلم غيرنا(58). أسلم قبل أن يدخل رسول
الله دار الأرقم(59).
وهو أول من جهر بالقرآن الكريم في مكة، وقال رسول الله ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ في قراءته: من سرّه أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل، فليقرأه علي
قراءة ابن أم عبد(60).
هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم
ـ وقطع عنق أبي جهل في غزوة بدر بعد أن ضربه ابنا عفراء بسيفيهما فأثبتاه.
وضمّه الرسول ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إلي نفسه، فكان يستره إذا اغتسل،
ويوقظه إذا نام، ويحمل نعليه أذا جلس، ويدخلهما في ذراعه، فإذا أقام ألبسه
نعليه، ومشي أمامه بالعصا حتي يدخل الحجرة قبل رسول الله ـ صلي الله عليه
وآله وسلم (61)ـ .
وكان ـ رضي الله عنه ـ قليل الصيام، فلما سئل عن ذلك قال: إني أختار الصلاة
عن الصوم، فإذا صمت ضعفت عن الصلاة(62).
كان عبد الله رجلاً قصيراً نحيفاً، وكان أحمش الساقين، أمره النبي ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ أن يصعد شجرة، فيأتيه بشيء منها، فنظر أصحابه إلي
حموشة ساقيه، فضحكوا منها(63).
فقال النبي: ما تضحكون! لرجلُ عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من
أُحُد .
ويروي ابن عبدالبر أن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أتي بين أبي بكر
وعمر، وعبد الله بن مسعود يصلي، فافتتح بالنساء، فقال النبي ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ: من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ علي قراءة
ابن أم عبد(64).
فلما انتهي عبد الله من صلاته قعد يسأل الله من فضله، فقال النبي ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ: سل تعطه، فقال ابن مسعود فيما سأل: اللهم إني أسألك
إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك سيدنا محمد في أعلي جنة
الخلد.
فاستجاب الله له، وأخبر النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أن ابن مسعود من
أهل الجنة، وذكره ضمن العشرة المبشرين بها. روي عن سعيد بن زيد قال: كنا مع
رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ علي حراء فذكر عشرة في الجنة:
أبوبكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن مالك
(أبي وقاص)، وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود(65).
فأتي عمر عبد الله بن مسعود يبشره، فوجد أبا بكر خارجاً قد سبقه، فقال عمر:
إن فعلت لقد كنت سباقاً للخير .
قال فيه النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: لو كنت مؤمراً أحداً بغير
مشورة، لأمرت ابن أم عبد(66).
وشهد عبد الله فتوح الشام، وبعثه عمر ـ رضي الله عنه ـ إلي الكوفة مع عمار
بن ياسر، فكان عمار أميراً، وابن مسعود معلماً، وكتب عمر إلي أهل الكوفة،
إني والله الذي لا إله إلاّ هو آثرتكم به علي نفسي فخذوا منه(67).
ولما استقدمه عثمان ـ رضي الله عنه ـ في خلافته إلي المدينة، قال له أهل
الكوفة وقد أحبوه وتعلقوا به: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيئاً تكرهه.
فقال: إن له عليّ حق الطاعة، ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتن(68).
وتوفي ـ رضي الله عنه ـ سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وعمره بضع وستون
سنة، وكانت وفاته بالمدينة، وصلّي عليه أميرالمؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي
الله عنهما ـ واستغفر كل منهما لصاحبه قبل أن يموت عبد الله، ودفن بالبقيع
ليلاً عند قبر عثمان بن مظعون حسب وصيته(69).
11ـ سعد بن معاذ: بن النعمان بن امريء القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وكنيته
أبو عمرو، وأمه كبشة بنت رافع بن معاوية، وهي ممن بايع النبي ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ.
وكان إسلامه هو وأسيد بن حضير علي يد مصعب بن عمير، وذلك لما أرسله النبي ـ
صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعلم أهل المدينة الإسلام ويفقههم في الدين.
فلما أسلم سعد أسلم بإسلامه جميع بني عبدالأشهل، فكانت دارهم أول دار من
الأنصار أسلموا جميعهم رجالهم ونساؤهم.
ومنذ أسلم ـ رضي الله عنه ـ حول مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة إلي داره،
فأخذا يدعوان الناس إلي الإسلام في دار سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ وكان
هو وأسعد بن زرارة ابني خالة(70).
شهد بدراً وأحداً والخندق، وفي غزوة الخندق رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب
أكحله (عرق في ذراعه) وقال وهو يرميه: خذها وأنا ابن العرقة، فقال رسول
الله: عرق الله وجهه في النار(71).
ودعا الله سعدٌ فقال: اللهم لا تمتني حتي تشفيني من قريظة، وضرب له الرسول
ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ خيمة في المسجد يمرض فيها، وليزوره عن قرب،
وكانت التي تُمَرِّضْهُ امرأة من الأنصار اسمها رفيدة الأسلمية الأنصارية.
وقد استجاب الله دعوته، فعاش حتي حكم في بني قريظة، فحكم بقتل المقاتلين
وسبي النساء والذرية، وقال له الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: لقد حكمت
فيهم بحكم الله(72).
ومات ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك بأيام سنة خمس من الهجرة، فلما حملت جنازته
قال المنافقون: ما أخفها! فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: إن
الملائكة حملته(73).
وفي الصحيحين قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ اهتز العرش لموت
سعد بن معاذ.
روي ابن عبد البر من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ أنه قال: نزلت الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطئوا
الأرض قبل، وقال في حلة سيراء رآها، لمنديل من مناديل سعد بن معاذ في الجنة
خير منها، ونزل جبريل في جنازته معتجراً بعمامة من استبرق(74).
وكان عمره ـ رضي الله عنه ـ يوم وفاته سبعاً وثلاثين سنة، ودفن بالبقيع(75) بعد
أن صلّي عليه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ.
وبكته أمه ـ رضي الله عنهما ـ فقالت:
ويلُ أم سعد سعداً حزامة وجِدّا
فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: كل نائحة تكذب إلاّ أم سعد(76).
12ـ العباس بن عبدالمطلب: بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي القرشي، عم
رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، وأمه نتيلة بنت جناب، وكنيته أبو
الفضل.
ولد قبل عام الفيل بثلاث سنوات، وأسلم مبكراً غير أنه كان يخاف أن يظهر
إسلامه. روي ابن سعد عن ابن عباس قال: قد كان من كان منا بمكة من بني هاشم
قد أسلموا، فكانوا يكتمون إسلامهم، ويخافون يظهرون ذلك فرقاً من أن يثب
عليهم أبو لهب وقريش، فيوثقوا كما أوثقت بنو مخزوم سلمة بن هشام وعباس بن
أبي ربيعة وغيرهما.
فلذلك قال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأصحابه يوم بدر: من لقي منكم
العباس وطالباً وعقيلاً ونوفلاً وأبا سفيان فلا تقتلوهم، فإنهم أخرجوا
مكرهين(77).
وكان ـ رضي الله عنه ـ في الجاهلية رئيساً، وإليه كانت عمارة البيت الحرام
والسقاية، فكان لا يدع أحداً يقول فحشاً في المسجد الحرام، وكان يحملهم علي
عمارته بالخير، ولا يستطيعون لذلك امتناعاً، وكان الملأ من قريش يعينونه
علي ذلك(78).
حضر مع رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بيعة العقبة الأخيرة
ليستوثق لابن أخيه ممن جاؤوا يبايعونه من أهل المدينة، وشهد بدراً مع
المشركين، وأسر فيها، وأمر الرسول بعدم قتله لأنه خرج مكرهاً، وافتدي نفسه
وابن أخيه عقيلاً (79).
ولما أسر في معركة بدر شدوا وثاقه، فكان يئن ويتوجع، ورسول الله يسمع ذلك،
فذهب عنه النوم، فسأله أحد الصحابة، لم لم تنم يا رسول الله؟ قال: أقلقني
أنين العباس، فذهب الرجل، فأرخي وثاقه، فكف عن الأنين.
فقال الرسول: مالي لا أسمع أنين العباس؟
فقال الرجل: أنا أرخيت من وثاقه.
فقال الرسول ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: فافعل ذلك بالأسري كلهم(80).
وكان بقاؤه في مكة من مصلحة المسلمين، حيث كان يكتب لرسول الله ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ أخبار قريش كما حدث في غزوة أحد وغزوة الخندق.
وهاجر قبل فتح مكة بقليل، وحضر مع رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
فتح مكة وحنين، وكان ممن ثبت يوم حنين(81).
وكان وجوده في مكة قوة للمسلمين، وظل مقيماً بمكة بالرغم من أنه كان يحب أن
يلحق برسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في المدينة، حتي كتب له
النبي: إن مقامك بمكة خير(82).
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إذا قحط الناس استتسقي بالعباس
فيسقون، وكان هو وعثمان بن عفان إذا مرَّ بهما العباس وهما راكبين نزلا
احتراماً وإجلالاً له، ويقولان: عم رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
وكان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعظمه ويحترمه، ويقول: هذا عمي
وصنوا أبي، هذا العباس بن عبدالمطلب أجود قريش كفّا، وأوصلها رحماً(83).
وكان بينه وبين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ قول، غلب العباس فيه عمر،
فجاء عمر إلي النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فقال: ألم تر إلي عباس فعل
بي كذا وكذا وفعل، فأردت أن أجيبه فذكرت مكانه منك فكففت عنه؟
فقال رسول الله: يرحمكم الله! إن عم الرجل صنو أبيه، وفي رواية: إنما
العباس صنو أبي، فمن آذي العباس فقد آذاني(84).
وتوفي ـ رضي الله عنه ـ بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب،
وقيل من رمضان، سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وكان عمره حينئذ ثمانياً
وثمانين سنة(85).
ولما توفي أرسل بنو هاشم رسولاً علي حمار إلي قباء يعلم الناس بوفاته، كذلك
أرسل أميرالمؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ رسولاً آخر يؤذن بموت
العباس، كما أرسل عثمان رسولاً آخر إلي أطراف الحرة الغربية علي بُعد عشرة
أميال من المدينة يخبر الناس بوفاة العباس، وغسله علي بن أبي طالب وأولاده
عبد الله وعبيد الله وقُثَم(86).
فاجتمع الناس من كل حدب وصوب، وكثروا كثرة عظيمة حتي ضاقت بهم المصلي،
فتقدموا به ـ رضي الله عنه ـ إلي البقيع، يقول الراوي: ولقد رأيتنا يوم
صلينا عليه بالبقيع وما رأيت مثل ذلك الخروج علي أحد من الناس قط، وما
يستطيع أحد من الناس أن يدنو إلي سريره، وغلب عليه بنو هاشم، فلما انتهوا
إلي اللحد ازدحموا عليه، وأري عثمان اعتزل، وبعث الشُّرَطَ يضربون الناس عن
بني هاشم حتي خلص بنو هاشم.
فكانوا هم الذين نزلوا في حفرته ودلّوه في اللحد، قال الراوي: ولقد رأيت
علي سريره بُرد حِبَرَه قد تقطع من زحامهم(87).
وصلَّي عليه أميرالمؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ودفن بالبقيع في
مقبرة بني هاشم.
13ـ عبد الله بن جعفر: بن أبي طالب القرشي الهاشمي، وكنيته أبو جعفر، وأمه
أسماء بنت عميس ـ رضي الله عنهما ـ ولدته بأرض الحبشة أثناء هجرتهم إليها،
وهو أول مولود في الإسلام في أرض الحبشة، ورجع جعفر وأسماء ومعهما أولادهما
عبد الله ومحمد وعون من الحبشة متوجهين إلي المدينة، فوصلوا إليها بعد فتح
خيبر.
وفي غزوة مؤتة كان جعفر بن أبي طالب أحد الأمراء الثلاثة الذين استشهدوا
فيها وكان عبد الله ـ رضي الله عنه ـ حين استشهد أبوه صغيراً، فكان رسول
الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعطف عليه كثيراً، مرَّ به وهو يلعب،
وكان رسول الله راكباً دابة فحمله أمامه(88).
وقال فيه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: وأما عبد الله فيشبه خلقي
وخُلقي، ثم أخذ بيده فقال: اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في
صفقة يمينه، ثم قال: وأنا وليهم في الدنيا والآخرة(89) .
توفي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وعمر عبد الله بن جعفر عشر
سنين، وكان من أشهر أجواد العرب حتي سموه قطب السخاء، قال ابن عبدالبر: ولم
يكن مسلم يبلغ مبلغه من الجود(90).
مدحه نصيب الشاعر فأعطاه إبلاً وخيلاً وثياباً ودنانير ودراهم، فقيل له:
تعطي لهذا الأسود مثل هذا؟
فقال: إن كان أسود فشعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل
أعطيناه إلاّ ما يبلي ويفني، وأعطانا مدحا يُروي وثناء يبقي؟(91).
كلفه أحد الدهاقين بأمر فقضاه له، فأرسل إليه الدهقان أربعين ألفاً فردها
عبد الله وقال: إنا لا نبيع معروفاً، واشتري أحد التجار سكراً، وجلبه إلي
المدينة، فكسد عليه ولم يبعه، وعلم عبد الله بذلك فأمر قهرمانه أن يشتريه،
ويفرقه في الناس.
وأرسل إليه يزيد بن معاوية مالا جليلاً هدية، ففرقه عبد الله في أهل
المدينة، ولم يُدخل بيته منه شيئا، وحكايات المؤرخين عنه في الكرم كثيرة لا
تحصي.
ولما عوتب في الكرم الذي قد يصل إلي حد الإسراف المذموم اعتذر بأن الله
عوده عادة وهو عود الناس عادة وقال: وأنا أخاف إن قطعتها قطعت عني(92).
وتوفي ـ رضي الله عنه ـ بالمدينة سنة خمس وثمانين من الهجرة وهو ابن تسعين
سنة، وصلّي عليه أبان بن عثمان بن عفان وهو أمير المدينة لعبدالملك بن
مروان، ودفن بالبقيع ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ.
14ـ مالك بن أنس: بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي المدني إمام
دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة المتبعة، وكنيته
أبو عبد الله.
ولد ـ رحمه الله ـ سنة خمس وتسعين من الهجرة في المدينة المنورة، وأخذ
القرآن عرْضاً عن نافع بن أبي نعيم، كما أخذ العلم عن شيخه ربيعة الرأي،
وكان ربيعة فقيه أهل المدينة في زمانه والمفتي بين يدي السلطان، وقد نهل
مالك ـ رضي الله عنه ـ من علم ربيعة حتي كان يفتي معه عند السلطان.
يقول مالك: قلّ رجل كنت أتعلّم منه ومات، حتي يجيئني ويستفتيني(93).
وأثني عليه المحدثون، فقال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقال سفيان بن عيينة: ما كان أشهد انتقاده للرجال، وقال يحيي بن معين: كل
من روي عنه مالك فهو ثقة إلاّ أبا أمية، وقال الشافعي: إذا جاء الحديث
فمالك النجم، ومن أراد الحديث فهو عيال علي مالك(94) .
وقال ابن وهب: سمعت منادياً ينادي بالمدينة، ألا لا يفتي الناس إلاّ مالك
بن أنس وابن أبي ذئب(95) .
كان الإمام ـ رحمه الله ـ إذا أراد أن يحدث عن رسول الله ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ تنظف وتطيب، وسرح لحيته، ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس الملابس
الحسنة.
وكان منزله مفروشاً بأنواع المفارش الفاخرة، وكان إذا دخل منزله يقول:
ماشاء الله لا قوة إلاّ بالله، ونقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل(96).
ولما سئل عن استعداده للحديث عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ علي
هذه الصفة قال: أحب أن أعظم حديث رسول الله، ولا أحدث به إلاّ متمكناً علي
طهارة؛ وكان يكره أن يحدث علي الطريق أو قائماً أو مستعجلاً.
ويقول في ذلك: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله
وسلم(97) ـ .
وكان ـ رضي الله عنه ـ يعظم المدينة، ويلزم نفسه فيها بآداب يراها أحق بها،
من ذلك أنه كان لا يركب دابة في المدينة مع ضعفه وحاجته إلي الركوب، ويقول:
لا أركب في مدينة فيها جثَّة رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
مدفونة.
بالرغم من أنه ـ رضي الله عنه ـ لم يفْتِ حتي شهد له سبعون عالماً بأنه أهل
للإفتاء، إلاّ أنه كان في آخر حياته نادماً علي ما أفتي به، حكي الحميدي أن
القعنبي قال: دخلت علي مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم
جلست فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟
قال: فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله
لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة
فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي(98).
ومع ذلك كان ـ رضي الله عنه ـ غزير العلم، لم يكن له مثيل في حال حياته،
وقد روي الترمذي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: يوشك أن يضرب الناس
أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة، وقد فسره
ابن عيينة فقال: هو مالك بن أنس(99).
وسعي به الواشون ـ وما أكثرهم في كل عصر ـ إلي جعفر بن سليمان، وهو ابن عم
أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، وقالوا له: إن مالكاً لا يري أيمان
بيعتكم هذه بشيء.
فغضب جعفر، واشتد غيظه، وليس هناك ما يغيظ ذوي السلطان أكثر من فضح باطلهم
والمساس بسلطانهم، لهذا استدعي جعفر بن سليمان مالكاً، وجرده من ثيابه،
وضربه بالسياط، ومدت يده حتي انخلعت من كتفه.
وقد وضح ابن الجوزي سبب ضربه حيث قال في سنة سبع وأربعين ومائة: وفيها ضرب
مالك بن أنس سبعين سوطاً، لأجل فتوي لم توافق غرض السلطان(100).
وكان ـ رضي الله عنه ـ يأتي المسجد، ويجلس فيه، ويشهد الصلوات والجمعة
والجنائز، وكان يعود المرضي، ويقضي الحقوق، ويجتمع عليه أصحابه وهو في
مجلسه في المسجد.
ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف إلي مجلسه، وترك حضور الجنائز
فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في
المسجد، ولا الجمعة، ولا يأتي أحداً يعزيه، ولا يقضي له حقاً.
يقول الواقدي: واحتمل الناس له ذلك حتي مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك
فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره(101).
وقد ذكر في تعليل ذلك مرض أصاب الإمام ـ رضي الله عنه ـ وهو سلس البول،
وكان رأيه أنه لا يجوز أن يجلس في مسجد رسول الله ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ وهو علي غير طهارة، وكان يري أن ذلك استخاف بحرمة المسجد النبوي
الشريف(102)، وسلس البول مرض يبيح لصاحبه ترك الجمعة والجماعات وغيرها من
الطاعات.
ولكن ابن كثير ـ رحمه الله ـ كان يري أن السبب الذي دعا الإمام إلي ترك
الجمعة والجماعة ومخالطة الناس، سبب سياسي، حيث يقول: ومن وقت خروج محمد
بن عبد الله بن حسن (المعروف بالنفس الزكيّة) لزم مالك بيته، فلم يكن يأتي
أحد لا لعزاء ولا لهناء (103).
ومن المعلوم أن محمد بن عبد الله بن حسن، خرج علي الخليفة العباسي أبي جعفر
المنصور واتخذ المدينة مقراً له، وظل بها حتي قتل في رمضان سنة خمس وأربعين
ومائة، أي قبل وفاة الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ بأربع وثلاثين سنة.
ومعني ذلك أن الإمام مالكاً ـ رضي الله عنه ـ ظل بعيداً عن الجمعة
والجماعات، والاختلاط بالناس هذه المدة الطويلة المذكورة وهي أربع وثلاثون
سنة.
وهذا مستبعد عقلاً، وإني أرجح أن يكون خروج محمد بن عبد الله بن حسن علي
الخلافة، وإعلان إمامته، وطلب البيعة لنفسه، قد تسبب في انقطاع الإمام عن
مخالطة الناس وبخاصة بعد أن قتل، وظل الإمام مواظباً علي الجمعة والجماعات
وتعزية الناس وتهنئتهم في بيوتهم دون أن يشترك في مظاهر جماعية، لاستبعاد
الشبهة، وعدم إثارة الفتنة.
ونحن قد علمنا أنه ـ رضي الله عنه ـ جلد سبعين جلدة، ومُدَّ ذراعه حتي
انخلع من كتفه سنة سبع وأربعين ومائة، أي بعد قتل محمد بن عبد الله بن حسن
بسنتين.
فلما أصابه سلس البول انقطع عن حضور الجمعة والجماعة، وكان اجتماع السببين
مبررا للإمام أن يعتزل الناس تماماً والله أعلم.
وتوفي الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ إمام دار الهجرة في شهر ربيع الأول سنة
تسع وسبعين ومائة، وكان عمره أربعاً وثمانين سنة، وكانت وفاته بالمدينة
المنورة، ودفن بالبقيع(104).
هذه هي قبور الرجال المعروفة في البقيع، والتي يمكن تحديدها الآن، والوقوف
علي أعيانها كما ذكره الثقاة من المؤرخين الذين زاروا المدينة، وشاهدوا
البقيع وحددوا فيه أماكن هذه القبور.
وقد ذكر بعض المؤرخين أسماء رجال من السلف ـ رضوان الله عليهم ـ وقالوا
إنهم مدفونون بالبقيع، حتي زعم بعضهم أن رأس الحسين، وجثة علي ابن أبي طالب
ـ رضي الله عنهماـ مدفونان بالبقيع، وهذا مما لم يثبت تاريخياً، ولم يقل
به أحد من المحققين، والثابت أن رأس الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ مدفون
دون أن يحدّد له مكان معين، وأما علي بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ
فالثابت المحقّق أنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة، وأخفي قبره حتي لا ينبشه
الخوارج.
وفي البقيع عدا ما ذكر شهداء الحرة، وهم الذين استشهدوا في معركة الحرة
التي وقعت في المدينة المنورة بين جيش يزيد بن معاوية، وبين أهل المدينة،
وكان ذلك سنة 63 هـ، وكان قائد جيش يزيد مسلم بن عقبة المرّي، وسنتكلم عن
معركة الحرة في المشاهد العسكرية إن شاءالله تعالي.
ولنتكلم بعد ذلك عن
شخصيات مسلمات دُفِنَّ بالبقيع، وقبورهن معروفة محددة هناك، فنقول وبالله
التوفيق:
1ـ صفية بنت عبدالمطلب: بن هاشم
بن عبد مناف بن قصي، وأمها هالة بنت وهيب وهي عمة الرسول ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ وشقيقة سيدنا حمزة عم الرسول، وهي أم الزبير بن العوام.
أسلمت في مكة، وعاشت إلي خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ وهاجرت
إلي المدينة المنورة مع ابنها الزبير بن العوام
(105).
وصفية ـ رضي الله عنها ـ أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، وذلك حين كانت
في حصن فارع وهو حصن حسان بن ثابت، وكان من أحصن آطام المدينة، وكان الرسول
ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إذا خرج للقتال يجعل النساء فيه.
وفي يوم من أيام الخندق جاء يهودي يتسمع ليعلم من في الحصن، فرأته صفية ـ
رضي الله عنها ـ فقالت لحسان بن ثابت، وكان قد تخلف عن الغزوة، اخرج إليه
فاقتله. فكأنه هاب ذلك، فأخذت صفية عموداً، ونزلت إلي اليهودي، وفتحت الباب
قليلاً قليلاً، حتي تمكنت منه، وضربته فقتلته(106).
ويستغل كثير من الكتاب هذه القصة، ويتهمون حساناً ـ رضي الله عنه ـ بالجبن،
وليس الأمر كذلك، لأن حساناً كان رجلاً شاعراً، وكان يهجو الشعراء، ويعدد
نقائصهم، ولو كان ـ رضي الله عنه ـ جباناً كما يزعم الذين يتهمونه، لما سلم
من ألسنة الشعراء الذين هجاهم وذكر عيوبهم، والجبن من أبشع الصفات التي
تهجو بها العرب، ولم نسمع شاعراً هجا حساناً بالجبن مما يدل علي أنه ليس
جباناً.
والذي يظهر والله أعلم أن حساناً كان مريضاً أو به علة منعته من حضور
الغزوة وهي التي منعته كذلك من النزول إلي اليهودي ليقتله.
وروي ابن سعد ـ رحمه الله ـ أن صفية ـ رضي الله عنها ـ جاءت يوم أحد وقد
انهزم الناس، وفي يدها رمح تضرب في وجوه الناس وتقول: انهزمتم عن رسول
الله.
فلما رآها رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: يا زبير المرأة،
وكان حمزة قد بقر بطنه، فكره رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أن
تراه.
فقال الزبير: يا أمَّه، إليك إليك.
فقالت: تنح لا أمّ لك، فجاءت فنظرت إلي حمزة(107).
وفي السيرة النبوية أن صفية أقبلت لتنظر إلي حمزة، فقال رسول الله ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ لابنها الزبير: (القها فأرجعها لا تري ما بأخيها).
فقال الزبير: يا أمّتِ، إن رسول الله يأمرك أن ترجعي.
قالت: ولم وقد بلغني أن قد مُثل بأخي، وذلك في الله؟ فما أرضانا بما كان من
ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.
ورجع الزبير إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فأخبره بالذي قالت:
فقال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له(108).
ولما توفي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ورثته عمته صفية ـ رضي
الله عنها ـ وكان مما قالت:
قد كان بعدك أنبــاء موهنـــة لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب
(109)
وعاشت ـ رضي الله عنها ـ حتي توفيت في خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه
ـ وكانت وفاتها بالمدينة المنورة، ودفنت بالبقيع
(110).
2ـ رقية بنت رسول الله: وأمها خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ ولدت قبل
البعثة بثلاث سنين، وكان عمر رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ثلاثاً
وثلاثين سنة(111).
أسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت هي وأخواتها حين بايع رسول الله ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ النساء(112).
تزوجت أولاً عتبة بن أبي لهب، وهو ابن عمها، فلما نزل قوله ـ تعالي ـ :
(تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ)(113)
قال أبو لهب لابنه: رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد، فطلقها،
وتزوجها بعده عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وهاجر بها إلي الحبشة، وولدت
له هناك ابناً سماه عبد الله، فكان يكني أبا عبد الله، وعاش عبد الله حتي
بلغ ست سنين، ونقره ديك في عينه فورم وجهه ومرض ومات(114).
ولم تلد لعثمان شيئاً بعد عبد الله، ومرضت رقية بالحصبة، وكان رسول الله ـ
صلي الله عليه وآله وسلم ـ يتجهز لغزوة بدر فخلف عليها زوجها عثمان ومعه
أسامة بن زيد، وماتت رقية ـ رضي الله عنها ـ ورسول الله ـ صلي الله عليه
وآله وسلم ـ ببدر، فبينما يدفن عثمان رقية سمع تكبيراً، فقال لأسامة: انظر
ما هذا؟
فإذا زيد بن حارثة علي ناقة رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
الجدعاء، بشيراً بقتل المشركين يوم بدر.
وكان تخلف عثمان ـ رضي الله عنه ـ عن غزوة بدر بأمر رسول الله ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ ولذا ضرب له بسهمه وأجره، وكانت وفاتها في اليوم السابع
عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة(115).
3ـ زينب بنت رسول الله: وأمها خديجة بنت خويلد، وهي كبري بناته ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ وأول من تزوج منهن، ولدت قبل البعثة بعشر سنين، وكان عمر
الرسول ثلاثين سنة(116).
تزوجت ابن خالتها هالة بنت خويلد أبا
العاص بن الربيع، وولدت له غلاماً سماه علياً، وجارية اسمها أمامة، وتوفي
علي وهو صغير، وعاشت أمامة حتي تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة بنت
رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم(117) ـ .
وكان زوجها أبو العاص بن الربيع ممن شهد بدراً مع المشركين، ووقع أسيراً،
أسره عبد الله بن جبير الأنصاري، ولما أرسل أهل مكة في فداء أسراهم، كان
عمرو بن الربيع ممن قدم لفداء أخيه أبي العاص، وبعثت معه زينب بنت رسول
الله بقلادة لها، كانت أمها خديجة قد أدخلتها بها عندما بني بها أبو العاص،
بعثت بها في فداء زوجها أبي العاص.
فلما رأي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ القلادة عرفها، ورقّ لها،
وتذكر خديجة ـ رضي الله عنها ـ وترحم عليها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها
أسيرها، وتردوا لها متاعها فعلتم.
قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوا أبا العاص بن الربيع، وردوا علي زينب
قلادتها واشترط النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ علي أبي العاص أن يخلي
سبيل زينب لتلحق بأبيها ففعل(118).
خلّي أبو العاص زينب بنت رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لتلحق
بأبيها بالمدينة المنورة، وخرجت زينب ومعها كنانة بن الربيع أخو أبو العاص،
وتصدي له المشركون ليمنعوه من الخروج بها وروعها وهي في هودجها هبار بن
الأسود، وكانت حاملاً، فطرحت جنينها، وكان رسول الله قد بعث زيد بن حارثة،
وأعطاه خاتمه لتعرفه زينب فتثق فيمن جاء ليصحبها إلي المدينة.
وأرسل زيد الخاتم مع أحد الرعاة، فعرفته زينب فخرجت ليلاً، وصحبها زيد حتي
دخلت المدينة(119).
وخرج أبو العاص في عير لقريش، فبعث رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ
زيد بن حارثة قائداً لجيش عدده سبعون ومائة رجل، ليستولوا علي قافلة قريش،
فالتقي جيش زيد ـ رضي الله عنه ـ بالقافلة عند العيص في جمادي الأولي سنة
ست من الهجرة، فأخذ العير وأسر رجالاً منهم أبو العاص، ودخل علي زينب
فأجارته.
فلما صلّي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ الصبح، نادت زينب بصوت
عال قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فقال رسول الله: هل سمعتم ما سمعت؟
قالوا: نعم.
قال: والذي نفسي بيده ما علمت شيئاً مما كان حتي سمعت، وإنه يجير علي
المسلمين أدناهم، وفي رواية: قد أجرنا من أجرت(120).
فلما انصرف رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إلي منزله دخلت عليه
زينب، وسألته أن يرد علي أبي العاص ما أخذ منه ففعل.
وأمرها ألا يقربها فإنها لا تحل له ما دام مشركاً، ورجع أبو العاص إلي مكة،
فأدي إلي كل ذي حق حقه، ثم أسلم، ورجع إلي النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم
ـ مسلماً مهاجراً في المحرم سنة سبع من الهجرة، فرد رسول الله ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ عليه زينب بنكاحها الأول(121).
وروي ابن سعد ـ رحمه الله ـ أن أبا العاص كان يحن إلي زينب، وذكر أنه خرج
مرة إلي الشام في بعض أسفاره فذكرها فقال:
ذكرت زينب لما ورّكب إرما فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة وكل بعل سيثني بالذي علما
ومكث أبو العاص ـ رضي الله عنه ـ مع زوجه زينب ـ عليها السلام ـ مسلماً
مهاجراً في المدينة المنورة سنة كاملة حيث توفيت في أول سنة ثمان من
الهجرة، وغسلتها أم أيمن وسودة بنت زمعة وأم المؤمنين أم سلمة.
وأمر الرسول ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أن تغسل وتراً ثلاثاً أو خمساً أو
أكثر، وأمر أن تغسل بماء وسدر، وأن يجعل في الآخرة كافورا، وألقي إليهم
حقوه ـ أي إزاره ـ وقال: أشعرنها إياها(122).
4ـ أم كلثوم بنت النبي: وأمها خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ تزوجها
عتيبة بن أبي لهب، ولم يدخل بها، كما فعل أخوه عتبة مع رقية ـ رضي الله
عنها ـ فلما نزل قول الله تعالي ـ: (تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَ تَبَّ)
أمره أبوه أن يطلقها فطلقها.
وظلت بمكة في رعاية أبيها ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وأسلمت حين أسلمت
أمها، وبايعت هي وأخواتها لما بايع الرسول النساء، وهاجرت إلي المدينة مع
عيال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم(123) ـ .
فلما توفيت رقية ـ عليها السلام ـ عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة علي عثمان
ـ رضي الله عنهم ـ فسكت عثمان لأنه كان سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ يذكرها.
وبلغ الخبر رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فقال: ألا أدل عثمان علي
من هو خير له منها، وأدلها علي من هو خير لها من عثمان؟
فتزوج رسول الله حفصة فكان خير لها من عثمان، وزوج عثمان بنته أم كلثوم
فكانت خيراً له من حفصة(124).
وعقد عليها عثمان ـ ـ رضي الله عنه ـ في ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة،
وبني بها في جمادي الآخرة من السنة نفسها، وعاشت معه ـ رضي الله عنهما ـ
إلي شعبان سنة تسع من الهجرة، ولم تلد له شيئاً(125).
وتوفيت ـ ـ رضي الله عنها ـ في شعبان سنة تسع، وقال رسول الله ـ صلي الله
عليه وآله وسلم ـ: لو كن عشراً لزوجتهن عثمان(126).
وغسلتها أسماء بنت عميس ـ ـ رضي الله عنها ـ وصفية بنت عبدالمطلب عمة رسول
الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قالت أسماء: وجعلت عليها نعشاً، أمرت
بجرائد رطبة فواريتها(127). وصلّي عليها أبوها(128) ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
عن أنس بن مالك قال: رأيت النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ علي قبرها،
فرأيت عينيه تدمعان فقال: فيكم أحد لم يقارف الليلة ـ أي لم يجامع أهله
الليلةـ؟
قال أبو طلحة: أنا، فقال: انزل في قبرها، كذلك نزل علي والفضل وأسامة بن
زيد ـ رضي الله عنهم(129) ـ .
5ـ فاطمة بنت الرسول: سيدة نساء العالمين، وأمها خديجة بنت خويلد، وهي أصغر
بنات النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وأولهن لحوقاً به، وآخر بناته
وفاة، توفيت بعد رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بستة أشهر علي
الأرجح، وكانت أحب بناته إليه، حتي إنه كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد
فصلّي فيه ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه(130).
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً
وحديثاً برسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ من فاطمة، وكانت إذا دخلت
عليه قام إليها فقبّلها ورحب بها كما كانت تصنع هي به ـ صلي الله عليه وآله
وسلم ـ.
ولدت فاطمه ـ رضي الله عنها ـ وقريش تبني الكعبة، وكان عمر النبي ـ صلي
الله عليه وآله وسلم ـ خمساً وثلاثين سنة، وكانت أكبر من عائشة بخمس سنين،
وتزوجها علي ـ رضي الله عنه ـ أوائل شهر محرم سنة اثنتين من الهجرة، بعد
دخول النبي بعائشة بأربعة أشهر(131).
روي ابن سعد أن أبابكر خطب فاطمة إلي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم
ـ فقال: يا أبابكر انتظر بها القضاء، فذكر ذلك أبوبكر لعمر، فقال له عمر:
ردك يا أبا بكر.
ثم إن أبا بكر قال لعمر: اخطب فاطمة إلي النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم
ـ فخطبها فقال له مثل ما قال لأبي بكر: انتظر بها القضاء، فجاء عمر إلي أبي
بكر فأخبره، فقال له: ردك يا عمر.
ثم إن أهل علي قالوا لعلي: اخطب فاطمة إلي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ فقال: بعد أبي بكر وعمر؟
فذكروا له قرابته من النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فخطبها، فزوجه
النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فباع علي بعيراً له وبعض متاعه فبلغ
أربعمائة وثمانين، فقال له النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ اجعل ثلثين
في الطيب وثلثاً في المتاع(132).
قال علي ـ رضي الله عنه ـ: تزوجت فاطمه وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام
عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها(133).
وكان علي ـ رضي الله عنه ـ شديداً علي فاطمة، فقالت: والله لأشكونك إلي
رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فخرجت وخرج علي في إثرها، ووقف حيث
يسمع كلامهما.
فشكت فاطمة إلي رسول الله غلظ علي وشدته عليها، فقال: يا بنية، اسمعي
واستمعي واعقلي، إنه لا أمرة لامرأة لا تأتي هوي زوجها وهو ساكت.
قال علي: فكففت عما كنت أصنع، وقلت: والله لا آتي شيئاً تكرهينه أبداً(134).
وقد أخبر الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ أنها ـ رضي الله عنها ـ سيدة
نساء العالمين، فقد روي ابن عبدالبر عن عمران بن حصين، ان النبي ـ صلّي
الله عليه وآله وسلم ـ عاد فاطمة وهي مريضة، فقال: كيف تجدينك يا بنية؟
قالت: إن وجعة، وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله.
قال: يا بنية، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟
قالت: يا أبت، فأين مريم بنت عمران؟
قال: تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، أما والله لقد زوجتك
سيداً في الدنيا والآخرة(135).
وقد استهجنت ـ رضي الله عنها ـ طريقة تشييع المرأة بعد وفاتها، فقالت
لأسماء بنت عميس ـ رضي الله عنها ـ: يا أسماء، إني قد استقبحت ما يصنع
بالنساء، يطرح علي المرأة الثوب فيصفها.
فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ: ألا أريك
شيئاً رأيته بأرض الحبشة؟ دفعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت عليها ثوباً.
فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت
فاغسليني أنت وعلي، ولا تدخلي علي أحداً(136).
وتوفيت ـ رضي الله عنها ـ ليلة الثلاثاء الثالث من شهر رمضان سنة إحدي
عشرة من الهجرة، وغسلتها أسماء بنت عميس وزوجها علي بن أبي طالب ـ رضي الله
عنهما ـ وصلّي عليها عليٌّ، ودفنها ليلاً، ونزل في حفرتها العباس وعلي
والفضل بن العباس ـ ـ رضي الله عنهم أجمعين(137)ـ .
6ـ فاطمة بنت أسد: بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وأمها فاطمة بنت هرم بن
رواحة، أم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ تزوجها أبو طالب بن عبد
المطلب، وأنجبت له عليا وجعفرا وعقيلا وهو أكبرهم، وكان لأبي طالب منها من
البنات: أم هانيء وجمانة وريطة(138).
أسلمت بمكة وهاجرت إلي المدينة، وتوفيت بها، فلما ماتت كفنها رسول الله ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ في قميصه، وقال: لم نلق بعد أبي طالب أبربي
منها(139).
وكانت ـ رضي الله عنها ـ تساعد فاطمة ـ رضي الله عنها ـ في عمل البيت، قال
علي ـ رضي الله عنه ـ قلت لأمي: أتكفي فاطمة سقاية الماء والذهاب في
الحاجة، وتكفيك الطحن والعجن؟.
وهي أول هاشمية ولدت خليفة، ثم بعدها فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنهما ـ وقد
أهدي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ لعلي بن أبي طالب حلة استبرق
ـ حرير ـ وقال: اجعلها خُمُراً بين الفواطم.
قال علي: فشققتها أربعة أخمرة: خمار لفاطمة بنت رسول الله ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ وخمار لفاطمة بنت أسد، وخمار لفاطمة بنت حمزة، ولم يذكر
الرابعة(140).
توفيت بالمدينة في حياة الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وكفنها في
قميصه كما سبق، واضطجع معها في قبرها، فقال الصحابة: ما رأيناك صنعت ما
صنعت بهذه!
فقال ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرَّ بي
منها، إنما ألبستها قميصي لتُكسي من حلل الجنة، واضطجعتُ معها ليُهوَّن
عليها(141).
ويروي العباسي في عمدة الأخبار أن الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ صلي
عليها عند قبرها وكبر تسعا وقال: ما أعفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت
أسد.
قيل يا رسول الله: ولا القاسم؟ قال: ولا إبراهيم ـ وكان إبراهيم أصغرهما ـ.
عن أنس قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ فجلس عند رأسها وقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي(142).
وقال: إن رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ حفر لحدها بيده، وأخرج
ترابه بيده الشريفة، ثم اضطجع فيه، ثم قال: الله الذي يحيي ويميت، وهو حي
لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع مدخلها فإنك أرحم الراحمين(143).
أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن:
أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ هن زوجات الرسول ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ اللاتي عشن معه ومتن وهن في عصمته، وقد بلغ عددهن اثنتي عشرة زوجة،
ولم يجتمع هذا العدد عنده، فقد انفردت السيدة خديجة بنت خويلد ـ رضي الله
عنها ـ مدة حياتها معه، وهي أول زوجاته فلم يتزوج عليها، وهي أم أولاده ما
عدا إبراهيم، عاشت معه ـ عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنها ـ خمسا وعشرين
سنة تقريبا.
ولدت له القاسم وعبد الله وزينب ورقية وفاطمة وأم كلثوم، ومات القاسم وعبد
الله بمكة، والقاسم أول من مات من ولده، وأما البنات فأدركن الإسلام وهاجرن
مع رسول الله إلي المدينة ومتن جميعا بالمدينة، ودُفِنَّ بالبقيع.
والسيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ آزرت رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ بنفسها، وآسته بمالها وتوفيت سنة عشر من البعثة النبوية بمكة، ودفنت
بالمعلا مقبرة أهل مكة (الحجون) ولم يصلّ عليها، لأن الصلاة علي الجنائز لم
تكن شرعت.
فلما توفيت السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ تزوج السيدة سوْدة بنت زمعة
بمكة، و بني بها في مكة و هاجرت معه إلي المدينة، وفي السنة الأولي للهجرة
تزوج السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وفي السنة الثالثة منها تزوج السيدة
حفصة والسيدة زينب بنت خزيمة.
فاجتمع عنده ـ عليه الصلاة والسلام ـ سودة وعائشة وحفصة وبنت خزيمة، ثم
توفيت بنت خزيمة في السنة الرابعة، فتزوج في السنة الخامسة أم سلمة وجويرية
وريحانة.
فاجتمع عنده ست هن: سودة وعائشة وحفصة وأم سلمة وجويرية وريحانة، وفي السنة
السابعة تزوج ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ أم حبيبة وصفية وميمونة، فكن
عنده تسع نسوة ولم يجتمع عنده أكثر منهن، وماتت ريحانة في حياته ـ صلّي
الله عليه وآله وسلم ـ وبقي الثمان، وقد دُفِنَّ في البقيع ما عدا ميمونة
بنت الحارث ـ رضي الله عنها ـ فقد توفيت بِسَرف، ودفنت هناك، وهو المكان
الذي تزوجها فيه رسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ودفنت في المكان الذي
دخل عليها فيه ـ رضي الله عنها ـ .
وقد يثير هذا العدد من النسوة اللاتي اجتمعن في عصمته ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ سؤالين هما:
السؤال الأول: كيف اجتمع هذا العدد لرسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم
ـ مع أن الإسلام لم يبح للمسلم أكثر من أربع نسوة؟
والجواب أن هذه خصوصية للرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ لا تباح لأحد
غيره، وكان القصد منها تعويض بعضهن عمن فقدن من الأزواج في الغزوات
والحروب، كما كان المقصود تأليف القبائل التي يتزوج منا لكسب مناصرتها
للأسلام والمسلمين.
السؤال الثاني: وغالبا ما يطرح بخبث للنيل من الرسول ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ ولذا لا يطرحه إلا أعداء الإسلام، أو المنحرفون من المسلمين، حيث
يقولون: إن محمداً كان رجلاً شهوانيا أباح لنفسه ما لم يبحه للمسلمين ليشبع
رغبته الجنسية.
والجواب أن هذه مغالطة لا يقبلها ذوو العقول السليمة، إذ لو كان ـ صلّي
الله عليه وآله وسلم ـ يتزوج لإشباع رغبته الجنسية كما يدعون، لتزوج
الأبكار، ولا ستأثر بالصغيرات.
ولكننا نلاحظ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يتزوج بكرا سوي السيدة عائشة
ـ رضي الله عنها ـ وبقية الزوجات الكريمات الطاهرات سبق لهن الزواج من رجل
أو رجلين قبله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فالسيدة خديجة ـ رضي الله عنها
ـ وهي أولي الزوجات كانت متزوجة من قبل برجلين الأول أبو هالة بن زرارة
فلما توفي تزوجت عتيق بن عائذ.
والسيدة سودة كانت تحت السكران بن عمرو فلما توفي عنها تزوجها الرسول،
والسيدة حفصة كانت عند خنيس بن حذيفة، ومات عنها متأثرا بجراحه يوم أحد،
وأم سلمة كانت متزوجة من عبدالله بن عبدالأسد المشهور بأبي سلمة، وأم حبيبة
كانت زوجة لعبيد الله بن جحش فارتد ومات علي النصرانية في الحبشة، وزينب
بنت جحش كانت زوجة لزيد بن حارث، وزينب بنت خزيمة كانت عند الطفيل بن
الحارث فطلقها، فتزوجها عبيدة بن الحارث، فقتل يوم بدر، فتزوجها الرسول ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وصفية بنت حيي كانت زوجة لسلاّم بن مشكم
ففارقها وتزوجها كنانة بن الربيع، وريحانة بنت زيد كانت متزوجة رجلا من
بني قريظة اسمه الحكم، وميمونة بنت الحارث كانت زوجة لمسعود بن عمرو
الثقفي، فلما فارقها تزوجها بعده أبو رهم بن عبد العزّي.
وهكذا نلاحظ أن واحدة فقط هي التي تزوجها بكراً وهي عائشة بنت أبي بكر ـ
رضي الله عنها ـ كما نلاحظ أن أربعاً من زوجاته تزوجن قبله مرتين، وهي
خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة، وصفية بنت حيي و ميمونة بنت الحارث.
والباقيات تزوجن مرة واحدة، فهل يرضي الرجل الشهواني ذو المطامع الجنسية أن
يتزوج نساء سبق لهن معرفة الرجال، وفي استطاعته أن يتزوج الأبكار الحسان؟
إن الإنسان الذي تقوده شهوته لا يستطيع أن يقود أمة، ولا أن يربي جيلا،
والإنسان الذي تجرفه ميوله الجنسية، وتسيطر عليه نزواته الشيطانية، لا
يلتفت إليه التاريخ، ولا يسجل له هذه العظمة التي أدهشت العالمين.
وسنلقي هنا نظرة خاطفة علي أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ اللائي دفن
بالبقيع وسيكون الحديث عنهن تعريفا موجزا بهن، وسأتكلم عنهن بحسب ترتيب
زواجهن من رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ.
1ـ سودة بنت زمعة:
ابن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ، وأمها الشموس بنت قيس بن عمر من بني النجار
الأنصار، تزوجها ابن عمها السكران بن عمرو بن عبد شمس بعد عبد ود.
أسلمت هي وزوجها بمكة، وهاجرا معا إلي الحبشة الهجرة الثانية، فلما رجعا
إلي مكة توفي زوجها، فتزوجها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ في
رمضان سنة عشر من النبوة ـ أي قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي السنة التي
توفيت فيها خديجة ـ رضي الله عنها ـ ودخل عليها بمكة وهاجر بها إلي المدينة(144).
وكانت سودة ـ رضي الله عنها ـ قد أسَنَّتْ فخشيت أن يطلقها رسول الله ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فسارعت بإرضائه، فوهبت نوبتها في القسم لعائشة
ـ رضي الله عنها ـ فقبل رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ونزل قوله
ـ تعالي ـ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)(145) .
وكانت سودة أحيانا تضحك الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فقالت له:
صليت خلفك الليلة، فركعت بي حتي أمسكت بأنفي خشية أن يقطر، فضحك رسول الله،
تريد أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أطال الركوع حتي خافت أن يخرج الدم من
أنفها.
رأت السيدة سودة ـ قبل وفاة زوجها
السكران بن عمرو ـ في منامها أن قمراً انقض عليها من السماء، وهي مضطجعة،
فأخبرت زوجها فقال: وأبيك صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيرا حتي أموت،
وتَزَوَّجين مِنْ بعدي.
فاشتكي السكران من يومه ذلك، فلم يلبث إلا قليلا حتي مات، وتزوجها رسول
الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم(146) ـ .
وكانت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تثني عليها، وتحب طريقتها وهديها،
وتقول: ما من الناس أحد أحب إلي من أن أكون في مسلاخه من سودة بنت زمعة،
إلا أن بها حدة(147).
وكانت ـ رضي الله عنها ـ سخية كريمة كثيرة الصدقة، أرسل إليها عمر ابن
الخطاب ـ رضي الله عنه ـ غرارة مملوءة دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم.
قالت: في غرارة مثل التمر؟ وفرقتها(148).
توفيت ـ رضي الله عنها ـ بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية
بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما(149) ـ .
2ـ عائشة بنت الصديق:
وهو أبوبكر بن أبي قحافة بن عامر، وأمها أم رومان بنت عمير، وعقد عليها
رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ بمكة بعد موت خديجة، وقبل الهجرة
بثلاث سنين، وكانت بنت ست سنين، عرضتها عليه خولة بنت حكيم حين قالت له: أي
رسول الله ألا تتزوج؟
قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.
قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر.
قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة، آمنت بك واتبعتك.
قال: فاذهبي فاذكريهما علي.
فذهبت إلي بيت أبي بكر، فأخبرت أم رومان بما أرسلها من أجله رسول الله ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فقالت لها: انتظري أبابكر، فلما جاء أخبرته
فقال: وهل تصلح له وهي بنت أخيه؟
فرجعت وذكرت ذلك للنبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فقال: قولي له: أنت
أخي في الإسلام وابنتك تحل لي(150).
وكان النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ قد رأي عائشة ـ رضي الله عنها ـ
في المنام في سَرَقة من حرير (أي شقة من حرير) فتوفيت خديجة، فقال: إن يكن
هذا من عند الله يمضه(151).
وجاء أبوبكر فخطبها الرسول منه، فقال: يا رسول الله، قد كنت وعدت بها مطعم
بن عدي لابنه جبير، فدعني حتي أسُلَّها منهم، ففعل(152).
ولما هاجر الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ إلي المدينة، وأتم بناء
المسجد، بني إلي جواره بيتين: بيت لسودة بنت زمعة، وبيت لعائشة، ودخل عليها
في شوال من السنة الأولي من الهجرة، وكانت بنت تسع سنين(153).
وقد تحدثت ـ رضي الله عنها ـ عن زواجها من رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ فقالت: تزوجني رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وأنا بنت ست
سنين، وأدخلت عليه وأنا بنت تسع سنين، وكنت ألعب علي المرجوحة، ولي جمة،
فأُتيتُ وأنا ألعب عليها، فأخذت فهيئت، ثم أدخلت عليه، وأري صورتي في حريرة(154).
وعاشت مع رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ تسع سنين، وتوفي عنها وهي
بنت ثمان عشرة، سنة وكانت ـ رضي الله عنها ـ عالمة فقيهة، وكانت تروي الشعر
وذات خبرة بالطب، حتي قال عنها هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدا أعلم
بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة، وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلي علم
جميع أزواج النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وعلم جميع النساء لكان علم
عائشة أفضل(155).
وقد رفع رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ قدرها، وأعلي شأنها، وبين
فضلها حين قال: فضل عائشة علي النساء كفضل الثريد علي سائر الطعام(156).
وكانت ـ رضي الله عنها ـ أحب الناس إلي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ سأل عمرو ابن العاص رسول الله فقال: يا رسول الله، من أحب الناس
إليك؟ قال: عائشة.
قال: إنما أقول من الرجال: قال: أبوها.
كما كانت كريمة خيرة كثيرة الصدقة، بعث إليها ابن الزبير ـ رضي الله عنه ـ
بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق ـ وهي يومئذ صائمة ـ فجعلت
تقسم في الناس.
فلما أمست قالت: يا جارية، هاتي فطري، فقالت أم ذرّة: يا أم المؤمنين، أما
استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟
فقالت: لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلت(157).
فلما دنا أجلها أوصت ألا يسيروا في جنازتها بنار، ولا يجعلوا تحتها قطيفة
حمراء(158)، وماتت ـ رضي الله عنها ـ ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان
سنة ثمان وخمسين(159)، وصلي عليها أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ في البقيع، ودفنت
بعد صلاة الوتر ونزل في قبرها القاسم بن محمد، وعبدالله ابن الزبير، وعروة
ابن الزبير وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر(160)، وكان عمرها يومئذ خمسا
وستين سنة والله أعلم.
3ـ حفصة بنت عمر:
ابن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزي، وأمها زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون.
ولدت حفصة ـ ـ رضي الله عنها ـ وقريش تبني الكعبة، قبل بعثة النبي ـ صلّي
الله عليه وآله وسلم ـ بخمس سنين، تزوجها خنيس بن حذافة، وهاجرا معا إلي
المدينة المنورة.
وهي شقيقة عبد الله بن عمر، فلما توفي خنيس عرضها عمر علي أبي بكر فسكت،
ثم عرضها علي عثمان فقال: لا حاجة بي إلي الزواج، فغضب عمر، وشكاهما إلي
رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فقال رسول الله ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من
حفصة، وتزوج رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ حفصة، وزوج عثمان أم
كلثوم.
فلقي أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ عمر فقال له: لا تجد عليّ في نفسك، فإن رسول
الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ كان قد ذكر حفصة، فلم أكن لأفشي سرّ
رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ولو تركها لتزوجتها(161).
تزوج رسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ حفصة ـ رضي الله عنها ـ سنة ثلاث
من الهجرة، ولم تدم عشرتها معه طويلا، فطلقها طلقة، فجاء جبريل ـ عليه
السلام ـ فقال له: راجع حفصة، فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة(162).
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ لما علم بأن الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم
ـ طلق حفصة أخذ يحثو التراب علي رأسه ويقول: ما يعبأ الله بعمر وابنته
بعدها.
فنزل جبريل من الغد، وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة بعمر.
وفي رواية أن عمر ـ رضي الله عنه ـ دخل علي حفصة وهي تبكي فقال: لعل رسول
الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ طلقك، إنه كان قد طلقك مرة ثم راجعك من
أجلي، فإن كان طلقك مرة أخري لا أكلمك أبداً(163).
ودخل رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ علي حفصة، وعندها امرأة يقال
لها الشفاء ترقي من النملة، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: علميها حفصة(164).
قلت: والنملة قرحة تخرج في الجسد بالتهاب شديد واحتراق مؤلم. وأوصي عمر ـ
رضي الله عنه ـ إلي حفصة، فلما أحست بدنو أجلها أوصت إلي أخيها عبد الله
بما أوصي به إليها عمر، كذلك أوصت بصدقة تصدقت بها، وبمال وقفته بالغابة(165).
وتوفيت ـ رضي الله عنها ـ في شهر شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية بن
أبي سفيان وهي يومئذ بنت ستين سنة(166).
وصلي عليها مروان بن الحكم في موضع الجنائز، وهو يومئذ أمير المدينة من قبل
معاوية ـ رضي الله عنه ـ وحمل مروان سريرها، ثم حمله بعده أبو هريرة، وتابع
مروان الجنازة، وظل معها حتي دفنت.
ونزل في قبرها ـ رضي الله عنها ـ أخواها عاصم وعبدالله، وأبناء أخيها عبد
الله سالم وعبد الله وحمزة ـ رضي الله عنهم أجمعين.
4ـ زينب بنت خزيمة:
ابن الحارث بن عبد الله الهلالية، وتعرف بأم المساكين في الجاهلية، لأنها
كانت تطعمهم، وتقضي حوائجهم.
كانت زوجة الطفيل بن الحارث، ثم تزوجها بعده أخوه عبيدة بن الحارث، وهي أخت
ميمونة بنت الحارث لأمها، وأمها خولة بنت عوف القرشية.
قتل زوجها عبيدة بن الحارث ببدر، فخطبها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ فجعلت أمرها إليه فتزوجها في شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة(167).
وكان دخوله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ عليها بعد دخوله بحفصة بنت عمر(168)،
ومكثت عنده ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ثمانية أشهر، وتوفيت في آخر شهر
ربيع الآخر سنة أربع من الهجرة.
وصلي عليها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ودفنها في البقيع(169).
ونزل في قبرها إخوتها الثلاثة، وكان عمرها يوم ماتت ثلاثين سنة أو نحوها(170).
5ـ أم سلمة:
هند بنت أبي أمية المعروف بزاد الراكب لأنه كان إذا سافر لا يترك أحداً
يرافقه يحمل معه زاداً، بل كان يكفيهم ذلك، وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة.
تزوجت ابن عمها عبد الله المعروف بأبي سلمة بن عبد الأسد بن المغيرة، وهي
من السابقين إلي الإسلام هي وزوجها، هاجرا معا إلي الحبشة، وهي أول امرأة
هاجرت إلي الحبشة، وولدت هناك سلمة، ثم عادا إلي مكة، وهاجرا إلي المدينة،
وولدت بالمدينة عمر ودرّة وزينب(171).
ولما خرجت مع زوجها مهاجرة إلي المدينة منعها قومها، وانقض أهل زوجها علي
ابنهما سلمة وقالوا: لا نتركه لكم وقد منعتموها من الذهاب معه، وأخذ
الفريقان يتجاذبان الطفل حتي انفصل ذراعه عن كتفه، وتفرقت الأسرة، فأبو
سلمة ذهب إلي المدينة، وأم سلمة بقيت بمكة ولكن بعيدة عن ولدها.
وظلت أم سلمة بمكة تنعي همها، وتبكي فراق زوجها وطفلها، حتي رق لها شيخ من
جماعتها وكلم ذويها حتي وافقوا علي رحيلها لتلحق بزوجها، وسلموا لها ولدها،
وخرجت علي بعير لها تريد المدينة، ليس معها إلا الله ـ عزّ وجلّ ـ وهو نعم
الرفقيق، وولدها.
ورآها رجل من المشركين مهاجرة علي هذا النحو، فسألها، إلي أين يا ابنة أبي
أمية؟
قالت: أريد زوجي بالمدينة، قال: هل معك أحد؟
قالت: لا والله، إلا الله وابني، فقال: والله مالك من مترك.
فأخذ بخطام البعير، وانطلق معها، تقول ـ رضي الله عنها ـ فوالله ما صحبت
رجلا من العرب أراه كان أكرم منه(172).
وسار معها الرجل ـ يقال إنه عثمان بن طلحة ـ في أدب ووقار، حتي رأي نخل
المدينة، فقال لها: هذه الأرض التي تريدين، ثم سلم وانصرف(173).
ودخلت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ المدينة، وجمع الله شمل الأسرة المباركة،
وأقام أبو سلمة عبد الله مع زوجه هند، وبينهما وليدهما العزيز سلمة.
جلست أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ مع زوجها يتحدثان فقالت له: بلغني أنه ليس
امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة، وهي من أهل الجنة، ثم لم تزوج بعده إلا
جمع الله بينهما في الجنة وكذلك أذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها، فتعال
أعاهدك ألا تزوج بعدي ولا أتزوج بعدك، قال: أتطيعينني؟
قالت: ما استأمرتك إلا وأنا أريد أن أطيعك.
قالت: فإذا مت فتزوجي، ثم قال: اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني لا
يحزنها ولا يؤذيها(174).
وشهد أبو سلمة ـ رضي الله عنه ـ غزوة أحد، وأصيب في ذراعه بسهم ظل شهراً
يداويه حتي بريء، وبعثه رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ في بعث مكث
فيه شهرا، ثم رجع إلي المدينة وجرحه منتقض فمات لثمان خلون من جمادي الآخرة
سنة أربع(175).
فلما مات أبو سلمة، ذهبت أم سلمة إلي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم
ـ فقالت: يا رسول الله إن أبا سلمةقد مات، فكيف أقول؟
قال: قولي اللهم اغفر لي وله، واعقبني منه عقبي حسنة أو عقبي صالحة.
قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة؟ ثم قلتها، فأعقبني
الله خيرا منه رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ.
وانقضت عدة أم سلمة في شوال سنة أربع من الهجرة، بوضع ابنتها زينب بنت أبي
سلمة، وتقدم أبوبكر لخطبتها فردته، وكذلك تقدم عمر فردته، فأرسل إليها رسول
الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ يخطبها فقالت: مرحبا برسول الله وبرسوله(176).
قالت أم سلمة: لما خطبني رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ قلت: إني
فيَّ خلال لا ينبغي لي أن آتزوج رسول الله، إني امرأة مسنة، وإني أم أيتام،
وإني شديدة الغيرة.
قالت: فأرسل إليّ رسول الله، أما قولك إني امرأة مسنة، فأنا أسن منك، ولا
يعاب علي المرأة أن تتزوج أسنّ منها، وأما قولك إني أم أيتام فإن كلهم علي
الله علي رسوله، وأما قولك إني شديدة الغيرة، فإني إدعو الله أن يذهب ذلك
عنك(177).
وتزوجها رسول الله ـ ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ونقلها إلي بيت بنت
خزيمة أم المساكين بعد أن ماتت، وكان الذي زوجها منه ابنها عمر، وهو يومئذ
غلام صغير(178) وفي الإصابة أن الذي زوجها ابنها سلمة(179).
يقول ابن حجر ـ رحمه الله ـ: وكانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع والعقل
البالغ والرأي الصائب، وإشارتها علي النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ
يوم الحديبية تدل علي وفور عقلها وصواب رأيها(180).
وماتت ـ رضي الله عنها ـ سنة إحدي وستين بعد ما جاءها نعْي الحسين ابن علي،
وكان ذلك في خلافة يزيد بن معاوية، وهي آخر زوجات النبي ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ موتا(181).
وصلي عليها أبو هريرة بالبقيع، ونزل قبرها ابناها سلمة وعمر وابن أخيها عبد
الله بن عبد الله بن أبي أمية، وعبد الله بن وهب بن رفعة الأسدي، وكان لها
من العمر أربع وثمانون سنة(182).
6ـ زينب بنت جحش:
ابن رباب بن يعمر، وأمها أميمة بنت عبدالمطلب، عمة رسول الله ـ صلّي الله
عليه وآله وسلم ـ هاجرت إلي المدينة، وهناك خطبها رسول الله لزيد بن حارثة
مولاه، وكان يعرف بزيد بن محمد، ولما خطبها رسول الله ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ علي زيد، قالت: يا رسول الله لا أرضاه لنفسي وأنا أيِّم قريش،
قال: فإني قد رضيته لك، فتزوجها زيد بن حارثة.
ولم تستقر حياتها مع زيد، فقد كان الخلاف قائما بينهما، وهم زيد بطلاقها،
ولكن الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ قال له: أمسك عليك زوجك واتق
الله.
وكان الله ـ عزوجل ـ قد أراد أن يبطل بهذا الزواج أمرا كان شائعا في
الجاهلية، وهو أن المتبنّي عندهم كان بمنزلة الولد، ينسب إلي من يتبناه
ويرثه إذا مات، ولا يجوز للمتبنِّي أن يتزوج زوجة المتبنَّي، لأنها كزوجة
الابن.
لهذا زوج النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ زينب مولاه زيد بن حارثة،
فلما طلقها زيد زَوَّجَها الله ـ تبارك و تعالي ـ رسوله ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ وفي هذا نزل قوله ـ تعالي ـ: (وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِى
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا لِكَىْ لَا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَرًا وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)(183).
ومن أجل هذا لما تزوجها الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ تكلم
المنافقون، وقالوا: محمد يحرم زوجة الابن، ويتزوج زوجة ابنه، فأنزل الله ـ
عزّوجلَّ ـ: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَ
لَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَىْءٍ عَلِيمًا)(184) ثم أمر ـ سبحانه ـ بأن ندعو هؤلاء المتنبون وننسبهم إلي
آبائهم فقال: (ادْعُوهُمْ لآبائهم هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ
تَعْلَمُوا ءَابَآءَهُمْ فَإِخْوَ نُكُمْ فِى الدِّينِ وَ مَوَ لِيكُمْ)(185) .
وكانت زينب ـ رضي الله عنها ـ سيدة تقية صالحة، وكان رسول الله ـ صلّي الله
عليه وآله وسلم ـ يحبها، وصفتها السيدة أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ فقالت:
كانت لرسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ معجبة، وكان يستكثر منها،
وكانت صالحة صوامة قوامة صناعا تتصدق بذلك كله علي المساكين(186).
وكانت تفخر علي زوجات النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ بأنها ابنة عمته،
وبأنها دون سائر الزوجات زوجها الله من فوق سبع سماوات، وقالت فيها السيدة
عائشة ـ رضي الله عنها ـ: لم يكن أحد من نساء النبي ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ تساميني في حسن المنزلة عنده غير زينب بنت جحش(187).
وغضبت مرة من السيدة صفية بنت حيي ـ أم المؤمنين ـ فقالت عنها: تلك
اليهودية، فهجرها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ذا الحجة والمحرم
وأياما من شهر صفر، ثم عاد إليها وسار معها كما كان من قبل(188).
ومن أجلها نزلت آية الحجاب، فإن الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ لما
دخل عليها، أو لم وليمة، ودعا إليها أصحابه، وبعد أن أكلوا جلسوا يتحدثون
في بيت رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وأخذ رسول الله يتردد علي
البيت وهم قعود، والسيدة زينب في البيت، فتأثر الرسول من قعودهم، ورُئيَ
ذلك في وجهه فنزل قوله ـ تعالي ـ: ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ
غَيْرَ نَظِرِينَ إِنَهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا
طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَ لَا مُسْتَْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَ لِكُمْ
كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِ مِنكُمْ وَ اللَّهُ لَا يَسْتَحْىِ
مِنَ الْحَقِّ وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَعًا فَسَْلُوهُنَّ مِن
وَرَآءِ حِجَابٍ ذَ لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ)(189).
ولما أرسل إليها رسول الله يخطبها قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتي أؤامر
ربي، وقامت إلي مسجدها، ونزل القرآن (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا
وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا) فجاء رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فدخل
عليها بغير إذن(190) ذلك لأن الله زوجه إياها فلم يكن في حاجة إلي إذن ليدخل
عليها(191).
وتزوجها ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ في أول شهر ذي القعدة سنة خمس من
الهجرة، بعد غزوة المريسيع أو بعدها بقليل، وكانت يومئذ بنت خمس وثلاثين
سنة .
وكانت ـ رضي الله عنها ـ سخية كريمة، كثيرة الصدقة، حتي كانت تتصدق بكل ما
تقدر عليه، روي ابن سعد عن الواقدي: ما تركت زينب بنت جحش درهما ولا
ديناراً، كانت تتصدق بكل ما تقدر عليه، وكانت مأوي المساكين.
وبلغ عطاؤها في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ اثني عشر ألفا، فلما
بعث به إليها حسبت أن أمير المؤمنين أرسل إليها المال لتوزعه علي المسلمين،
وذلك لكثرته، فلما قيل لها إنه عطاؤك، فرقته كله في المحتاجين، وقالت:
اللهم لا يدركني هذا المال من قابل، فإنه فتنة.
فلما بلغ عمر ما فعلت بعطائها قال: هذه امرأة يراد بها خير، فذهب إليها
وسلم عليها، وقال: بلغني ما فرقت، فأرسل بألف درهم تستبقينها، ففعلت به كما
فعلت بالأول(192).
وهي ـ رضي الله عنها ـ أول نساء النبي لحوقا به. روي مسلم في صحيحه عن
عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم
ـ: أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً، فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، قالت:
وكانت أطولنا يداً زينب بنت جحش، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق(193).
فلما حضرتها الوفاة قالت: إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إلي بكفن، بعث
بكفن فتصدقوا بأحدهما، وإن استطعتم إذا دلّيتموني أن تصدقوا بحقوي فافعلوا(194).
وأوصت ـ رضي الله عنها ـ أن تحمل علي سرير رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ وأن يجعل عليه نعش، وكان قد حمل عليه أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ
وكانوا يحملون عليه الموتي، حتي كان مروان بن الحكم فمنع أن يحمل عليه إلا
الرجل الشريف، وفرق سررا في المدينة تحمل عليها الموتي.
فلما توفيت أرسل إليها عمر بن الخطاب بخمسة أثواب من الخزائن يتخيرها ثوبا
ثوبا، فكفنت فيها، وتصدقت عنها أختها حمنة بكفنها الذي أعدته تكفّن فيه(195).
ورثتها عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت: ذهبت حميدة فقيدة، مفزع اليتامي
والأرامل(196). وصلي عليها عمر بن الخطاب، وكبر أربعا، وأرسل إلي أزواج النبي ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ من تأمرنني أن يدخل قبرها؟
فأرسلن إليه: من كان يراها في حياتها، فيدخلها في قبرها(197).
وكانت وفاتها ـ رضي الله عنها ـ سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر ابن
الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وعمرها حينئذ خمسون سنة، وقيل ثلاث وخمسون سنة(198).
ورأي عمر الحفارين يحفرون قبرها في يوم شديد الحر فقال: لو أني ضربت عليهم
فسطاطاً، فضرب عليهم فسطاطاً، فكان أول فسطاط ضرب علي قبر، ودفنت ـ رضي
الله عنها ـ بالبقيع(199).
وجلس عمر علي شفير القبر، ومعه أبو أحمد بن جحش ذاهب البصر ـ كفيفاً ـ جالس
علي شفير وعمر بن الخطاب قائم علي رجليه، والأكابر من أصحاب رسول ـ صلّي
الله عليه وآله وسلم ـ قيام علي أرجلهم(200).
وحمل سريرها أبو أحمد بن جحش، وهو مكفوف البصر، وكان يبكي، فقال له عمر: يا
أبا أحمد تنح عن السرير، لا يعنَّك الناس، ازدحموا علي سريرها.
فقال أبو أحمد: يا عمر، هذه التي نلنا بها كل خير، وإن هذا يبرد حر ما أجد(201).
فقال عمر: الزم الزم .
ونزل في قبرها محمد بن عبد الله بن جحش، وأسامة وعبد الله ابنا أبي أحمد بن
جحش، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، وهو ابن أختها حمنة ـ رضي الله عنهم
أجمعين(202).
7ـ ريحانة بنت زيد:
ابن عمرو بن خنافة بن شمعون من بني النضير، كانت متزوجة رجلا من بني قريظة
يقال له الحكم، فنسبها بعض الرواة إلي بني قريظة.
قتل زوجها ضمن قتلي بني قريظة، وجيء بها في الأسري،فلما رآها ـ صلّي الله
عليه وآله وسلم ـ عزلها، ثم أرسلها إلي بيت أم المنذر بن قيس، حتي قتل
الأسري، وفرق السبي، فدخل إليها فاستحيت واختبأت.
فدعاها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فأجلسها بين يديه، و خيرها،
فاختارت الله ورسوله، فأعتقها وتزوجها(203).
يقول ابن سعد ـ رحمه الله ـ: إن الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ لما
دخل علي ريحانة قال لها: إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه.
فقالت: إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني رسول الله وتزوجني،
وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ونشّاً كما كان يصدق نساءه، وأعرس بي في بيت أم
المنذر، وكان يقسم لي كما كان يقسم لنسائه، وضرب عليَّ الحجاب(204).
ويروي ابن سعد رواية أخري عن الواقدي فيقول: لما سبي رسول الله ـ صلّي الله
عليه وآله وسلم ـ ريحانة عرض عليها الإسلام فأبت، وقالت: أنا علي دين قومي،
فقال رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ: إن أسلمت اختارك رسول الله
لنفسه، فأبت، فشق ذلك علي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فبينما
رسول الله جالس في أصحابه إذ سمع خفق نعلين فقال: هذا ابن سعية يبشرني
بإسلام ريحانة.
فجاءه فأخبره أنها قد أسلمت، فكان رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ
يطؤها بالملك حتي توفي عنها(205).
وهكذا تختلف الروايات في كونها زوجة من الزوجات أو سرية مملوكة، ولكن
الراجح أنها كانت زوجة، وعاملها الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ
معاملة الزوجات، ومما يؤيد أنها كانت زوجة غيرتها الشديدة علي رسول الله ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ حتي طلقها، والطلاق لا يكون إلا علي زوجة،
والغيرة لا تكون إلا من زوجة، فلما طلقها شق عليها فأكثرت البكاء، فراجعها
فكانت عنده حتي ماتت قبل أن يتوفي(206).
وكان رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ معجباً بها ويستكثر منها
ويعطيها ما تسأله، حتي قيل لها: لو كنت سألت رسول الله ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ بني قريظة لأعتقهم، فقالت: ما خلابي حتي فرق السبي(207).
وتزوجها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ في شهر محرم سنة ست من
الهجرة، وبقيت عنده حتي ماتت سنةعشر، مَرْجِعَهُ من حجة الوداع، فدفنها
بالبقيع(208).
8ـ جويرية بنت الحارث:
ابن أبي ضرار بن حبيب بن خزاعة، تزوجها رجل من قومها هو مسافع ابن صفوان،
قتل عنها في غزوة بني المصطلق (المريسيع).
غزا رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ بني المصطلق لما علم بأن
الحارث بن ضرار جمع جمعاً ليقاتل المسلمين، ويغزو المدينة، وانهزم بنو
المصطلق، وأسر وسبي وغنم منهم رسول الله الشيء الكثير، وكان نساء بني
المصطلق سبايا في أيدي المسلمين، فأخرج الرسول خمس الغنائم، وقسمه بين
الناس.
ووقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس، وكانت كما عرفنا متزوجة ابن
عمها مسافع، فكاتبها ثابت علي تسع أواق تؤديها لتعتق بذلك نفسها، وأخذت
جويرية تستعين من ترجو عونه لتجمع ما كوتبت عليه، فذهبت إلي رسول الله ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ تستعينه.
تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: وكانت امرأة حلوة لا يكاد يراها أحد إلا
أخذت بنفسه فبينا النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ عندي إذ دخلت عليه
جويرية تسأله في كتابتها.
فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها علي النبي ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ وعرفت أنه سيري منها مثل الذي رأيت.
فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأمر
ما قد علمت، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبني علي تسع أواق، فأعني في
فكاكي.
فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أو خير من هذا؟ فقالت: ما هو؟
قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله.
فقال رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ: قد فعلت.
وخرج الخبر إلي الناس فقالوا: أصهار رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم
ـ يُسْتَرقُّون، فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق، فبلغ عتقهم
مائة أهل بيت بتزويجه إياها، فلا أعلم أمرأة أعظم بركة علي قومها منها(209).
ومنذئذ ضرب الرسول عليها الحجاب، وكان يقسم لها كما يقسم لنسائه، فلما دخل
بها سماها جويرية وكانت اسمها برَّة، كره أن يقال خرج من عند برة(210).
وكانت ـ رضي الله عنها ـ كثيرة التعبد، روي الترمذي عن جويرية بنت الحارث
أن النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ مرّ عليها وهي في مسجدها، ثم مر
عليها قريبا من نصف النهار فقال: ما زلت علي ذلك؟ قالت: نعم.
قال: ألا أعلمك كلمات تقوليهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه،
سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته(211).
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: لقد قلت بعدك كلمات لو وزن لرجحن بما قلت،
قلت: سبحان الله عدد ما خلق... الحديث(212).
وروي البخاري عن جويرية ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ دخل عليها يوم جمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا.
قال: فتصومين غدا؟ قالت: لا.
قال: فأفطري.
تزوجها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ سنة ست من الهجرة، وهي
حينئذ بنت عشرين سنة وتوفيت سنة خمسين من الهجرة، وكان عمرها خمسا وستين
سنة، وصلي عليها مروان بن الحكم والي المدينة من قبل معاوية بن أبي سفيان ـ
رضي الله عنه ـ.
9ـ رملة بنت أبي سفيان:
وهو صخر بن حرب بن أمية، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية عمة عثمان بن
عفان ـ رضي الله عنه ـ وشهرتها كنيتها أم حبيبة، وتعرف بكنيتها أكثر من
اسمها.
ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاما، وتزوجها عبيد الله بن جحش، وأسلما، وهاجرا
إلي الحبشة، وهناك ولدت له حبيبة، فكانت تكني بها(213).
وارتد زوجها عن الإسلام، واعتنق النصرانية، وانكب علي شرب الخمر، ورأته
زوجه أم حبيبة في المنام في حالة سيئة، فلما أصبحت أخبرته، ولم يعبأ بذلك،
وظل علي ردته، وفي ليلة سمعت من يناديها في المنام: يا أم المؤمنين.
قالت: ففزعت، فأوّلتها أن رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ يتزوجني،
فلما انقضت عدتي جاء رسول النجاشي يخبرني بأن رسول الله ـ صلّي الله عليه
وآله وسلم ـ كتب إلي النجاشي أن يزوجنيه، وطلب مني الملك أن أوكل من
يزوجني، فبعثتُ إلي خالد بن سعيد بن العاص فوكلته(214).
وتزوجها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ سنة سبع من الهجرة،
وأحضرها من الحبشة إلي المدينة شرحبيل بن حسنة، وكان لها يوم قدمت المدينة
سبع وثلاثون سنة (بضع وثلاثون سنة)(215).
وبلغ أبو سفيان بن حرب أن النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ تزوج ابنته
فقال: هو الفحل لا يقرع أنفه(216) ولما نقضت قريش معاهدة الحديبية، وخافوا غزو
رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ مكة، ذهب أبو سفيان إلي المدينة
ليمد فترة الهدنة، فدخل علي ابنته أم حبيبة، وهي يومئذ أم المؤمنين زوج
النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وذهب يجلس علي فراش رسول الله ـ صلّي
الله عليه وآله وسلم ـ فأسرعت أم حبيبة وطوت الفراش فقال أبو سفيان: يا
بنية، أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟
قالت: بل هو فراش رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وأنت امرؤ مشرك
نجس(217).
فقال: لقد أصابك بعدي شرٌ .
ولما توفي أبو سفيان بن حرب ـ رضي الله عنه ـ دعت ابنته أم حبيبة بطيب فطلت
به ذراعيها وعارضيها ثم قالت: إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت رسول
الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تحدَّ علي ميت فوق ثلاث، إلا علي زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر
وعشرا(218) .
فلما أحست بقرب أجلها أحبت أن تبريء ذمتها مما يكون قد علق بها من الخصومات
مع ضرائرها، فدعت السيدة عائشة ـ رضي الله عنهما ـ فقالت: قد كان يكون
بيننا ما يكون بين الضرائر، فتحللينني من ذلك.
قالت عائشة: فحللتها واستغفرت لها، فقالت لي: سررتني سرك الله(219).
ثم أرسلتْ إلي أم سلمة بمثل ذلك . وماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين في
خلافة معاوية بن أبي سفيان(220).
10ـ صفية بنت حيي:
ابن أخطب بن سعية من سبط هارون أخي موسي بن عمران ـ صلّي الله عليهما وسلم
ـ وأمها برَّة بنت سموأل أخت رفاعة بن سموأل.
تزوجت صفية سلاّم بن مشكم القرظي، ولم تستقم حياته معها فطلقها، فتزوجها
بعده كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري، فقتل عنها يوم خيبر.
وجيء بها ضمن سبايا خيبر، فكانت في سهم دحية الكلبي، وتكلم الناس، فقالوا:
إنها سيدة قريظة والنضير ولا تصلح إلا لك يا رسول الله، فقال ـ عليه الصلاة
والسلام ـ لدحية: خذ جارية غيرها(221)، واصطفاها ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ
لنفسه.
وكانت صفية ـ رضي الله عنها ـ قد رأت في المنام أن القمر قد وقع في حجرها،
فذكرت ذلك لأمها فلطمت وجهها وقالت: إنك لتمدين عنقك إلي أن تكوني عند ملك
العرب(222).
ورأي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ أثر اللطمة في وجهها فسألها
عنه فأخبرته خبرها، ولم يخرج الرسول من خيبر حتي طهرت صفية من حيضها،
وحملها وراءه، وسار حتي كان علي بعد ستة أميال من خيبر أراد أن ينزل
ويُعرِّس بها، فامتنعت، ووجد رسول الله في نفسه، ثم واصل السير حتي إذا كان
بمكان يعرف بالصهباء علي بريد من خيبر ـ أي علي بُعْدِ اثني عشر ميلاً عن
خيبر ـ نزل هناك وأخذتها أم سليم ـ رضي الله عنها ـ فمشطتها وعطرتها،
وهيأتها للعرس.
ووصفتها أم سنان الأسلمية فقالت: وكانت من أضوأ ما يكون النساء.
ودخل عليها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ ولما أصبحت سألتها أم
سنان، ماذا قال لك رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ؟
فقالت: قال لي ما حملك علي الامتناع من النزول أولاً؟ فقلت: خشيت عليك من
قرب اليهود، قالت: فزادها ذلك عنده(223).
وتصف أم سليم الحال الذي هيأت فيه صفية ليعرس بها رسول الله ـ صلّي الله
عليه وآله وسلم ـ فتقول: وليس معنا فسطاط ولا سرادقات، فأخذت كساءين أو
عباءتين، فسترت بينهما إلي شجرة فمشطتها وعطرتها، وما شعرنا حتي قيل رسول
الله يدخل علي أهله، وقد نمصناها ونحن تحت دومة(224).
وأصبح رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فأولم عليها هناك، وما كانت
وليمته إلا الحيس، وما كانت قصاعهم إلا الأنطاع، فتغذي القوم يومئذ(225).
عن سهل بن سعد أن رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ أوْلم حين دخلت
عليه صفية بنت حيي بن أخطب قال: قلت: فماذا كان في وليمته؟
قال: التمر والسويق، قال: ورأيت صفية يومئذ تسقي الناس النبيذ.
قال: فقلت له: وأي شيء كان ذلك النبيذ الذي تسقيهم؟
قال: تمرات نقعتهن في تور من حجارة أو قال: برمة، من العشيِّ أو من الليل،
فلما أصبحت صفية سقته الناس(226).
فلما وصل رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ إلي المدينة، وبات ليلته
مع صفية، بات أبو أيوب علي باب النبي صلي الله عليه وآله وسلم فلما اصبح
رسول الله كبّر، ومع ابي أيّوب السيف، فقال: يا رسول الله، كانت جارية
حديثة عهد بعرس، وكنت قتلت أباها وأخاها وزوجها، فلم أمنها عليك، فضحك رسول
الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وقال له خيراً(227).
وأنزل الرسول صفية في بيت من بيوت حارثة بن النعمان، وسمع نساء الأنصار
فجئن ينظرن جمالها وما تتمتع به من حسن، وجاءت عائشة متنقبة لئلا تعرف،
ولكن الرسول ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ عرفها، فلما خرجت خرج وراءها،
فقال: كيف رأيت يا عائشة؟
قالت: رأيت يهودية.
فقال: لا تقولي ذلك، فإنها أسلمت وحسن إسلامها(228).
دخل عليها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ يوماً فوجدها تبكي، فقال
لها: ما يبكيك؟
قالت: بلغني أن عائشة وحفصة تنالان مني، وتقولان: نحن خير من صفية، نحن
بنات عم الرسول وأزواجه.
قال: ألا قلت لهن: كيف تكن خيراً مني، وأبي هارون، وعمي موسي، وزوجي محمد(229).
قال فيها ابن عبد البر: كانت صفية حليمة عاقلة فاضلة، ويدلل علي ذلك بقوله:
روينا أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل
اليهود، فسألها عمر فقالت: أما السبت فإني لما أحبه منذ أبدلني الله به يوم
الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً وأنا أصلها(230).
ثم قالت للجارية: ما حملك علي ما صنعت؟
قالت: الشيطان.
قالت: اذهبي فأنت حرة .
ولما مرض رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ مرض الموت، اجتمع نساؤه
حوله، فقالت صفية بنت حيي: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك
بي،فتغامز أزواجه ببصرهن.
فقال رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ: مضْمضن.
فقلن: من أي شيء؟(231)
فقال: من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة .
وكان لها ـ رضي الله عنها ـ موقف رائع يوم الدار، يوم حاصر المتمردون
أميرالمؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وذلك حين لم يتمكن أحد من
إدخال الماء والطعام إلي بيت أميرالمؤمنين المحصور، عندئذ وضعت خشباً بين
منزلها ومنزل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وكانت تنقل عليه الماء والطعام إلي
بيت عثمان(232).
وأوصت ـ رضي الله عنها ـ لابن أختها ـ وهو يهودي ـ وكانت ما تركته مائة ألف
درهم، ولكن المسلمين لم ينفذوا وصيتها، فكلمت عائشة ـ رضي الله عنها ـ
فأرسلت إليهم: اتقوا الله، وأعطوه وصيته، فأخذ ثلثها، وهو ثلاثة وثلاثون
ألفاً ونيفاً، وأما دارها فقد تصدقت بها قبل موتها(233) .
تزوجها النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ سنة سبع من الهجرة(234)، وقالت
أميمة بنت أبي قيس الغفارية: أنا إحدي النسوة اللاتي زففن صفية إلي رسول
الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ تقول: ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت
علي رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم(235) ـ .
وتوفيت ـ رضي الله عنها ـ سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان
ـ رضي الله عنه ـ وقبرت بالبقيع(236) .
مشاهد البقيع المشهورة
وهذا رسم يوضح المشاهد المعروفة والمشهورة في البقيع، وقد عرفنا قبل أنه أن
مدفون فيه أكثر من عشرة آلاف صحابي، ولكن القبور التي ثبت معرفتها، وتحقق
مكانها فيه قليلة جداً نرمز لها بالرسم الآتي:
لما مات عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ وهو أول من مات من المهاجرين في
المدينة، ودفن بالبقيع قال رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وقد وضع
حجراً عند قبره: (أتعلّم به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي) ولذلك لما
مات ولده إبراهيم، وسئل أين نحفر له؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون(237) .
ومن أجل هذا يرجح العباسي أن القبر الذي يقال له: قبر فاطمة بنت أسد ـ رضي
الله عنها ـ ليس قبرها، وإنما هو قبر سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ لأن
فاطمة بنت أسد هي أم الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ فهي إذاً
امرأة عم النبي ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ وهي حماة ابنته فاطمة ـ رضي
الله عنها ـ وهي فوق ذلك كله، كان رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ
يعتبرها أمه بعد أمه حتي إنها لما ماتت شق ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ
لحْدها بيده الشريفة، ورفع التراب من اللحد بيده الشريفة، ونام في اللحد
قبل أن يضعها فيه، ودعا لها(238).
روي الطبراني في الكبير والأوسط عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: لما
ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فجلس
عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي.
وروي ابن عبدالبر عن ابن عباس ـ ـ رضي الله عنهما ـ، قال: لما ماتت فاطمة
أم علي بن أبي طالب، ألبسها رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلم ـ قميصه
واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه. فقال: إنه لم
يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسي من حلل الجنة،
واضطجعت معها ليهوّن عليها(239).
لهذا فإن الراجح أن يكون قبرها قرب قبر عثمان بن مظعون، حيث قال الرسول ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ: «وأدفن إليه من مات من أهلي» ويؤكد ذلك ما
رواه ابن زبالة عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: دفن رسول الله ـ
صلّي الله عليه وآله وسلم ـ فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت مهاجرة مبايعة،
بالروحاء مقابل حمام أبي قطيفة، قال: وثم قبر إبراهيم ابن النبي ـ صلّي
الله عليه وآله وسلم ـ وقبر عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه(240) ـ .
فأما القبر الذي في آخر البقيع المنسوب إلي السيدة فاطمة بنت أسد، فيقول
فيه السمهودي: إنه قبر سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ فإنه يذكر أن سعداً
مات في منزله في بني عبدالأشهل، وصلي عليه الرسول ـ صلّي الله عليه وآله
وسلم ـ ودفنه في طرف الزقاق الذي بلزق دار المقداد بن الأسود... وهي الدار
التي يقال لها دار ابن أفلح في أقصي البقيع، قال: وهذا الوصف صادق بالمشهد
المنسوب لفاطمة بنت أسد، لكونه بطرف زقاق في أقصي البقيع(241) .
|